السلطة الجزائرية في مواجهة حراك 2019-2020

, par  السفير العربي, عمر بن درة

لم يستطع النظام المتمرس جيداً بإدارة أحداث شغب محلية تندلع باستمرار هنا وهناك لكل الأسباب الممكنة منذ عشرات السنوات - مراوحاً بين القمع وشراء ذمم "قادة" مزعومين - أن يستعيد التحكم في الزمن السياسي.

تصوير: حسن مزين/الجزائر.

"إن صراع الإنسان مع السلطة إنما هو صراع الذاكرة ضد النسيان".
كتاب الضحك والنسيان، ميلان كوندير.

حتى اللحظة الأخيرة، لم يتوقع النظام الجزائري - معتقداً أنّه بمنأى عن أي حركة معارضة منظّمة - الزحف الاحتجاجي لحراك يوم جمعة 22 شباط/فبراير 2019 المصيرية. كان أصحاب القرار في قيادة الأجهزة السياسية- البوليسية متيقنين من سيطرتهم الكلية على المجتمع. مثلهم مثل غالبية المراقبين السياسيين، كان الجنرالات يعتقدون أن الشعب الجزائري خانع وخاضع إلى حد كبير.

قبل بضعة أسابيع من إعلان ترشح عبد العزيز بوتفليقة لعهدة رئاسية خامسة، في 10 شباط/فبراير 2019، أعلن أحمد أويحيى - أحد وجوه النظام المكروهة، والذي يقبع اليوم في السجن بتهمة الفساد - بعجرفته المعتادة، السيطرة البوليسية على الفضاء العام [1]. وفعلاً، كان التنظيم السياسي الذي ولد من رحم انقلاب 1992 يبدو مسيطراً على الوضع أكثر من أي وقت سابق. فلقد أثبتت نجاعتها التغطيةُ المزدوجة - المجالية والمؤسساتية - للبلاد بشبكات الشرطة السياسية. وكان مستوى الطمأنينة في الأوساط الحاكمة عالياً لدرجة الاعتقاد بأن إعادة انتخاب رجل مريض للغاية، ويبلغ من العمر 82 سنة - كان أصلاً عاجزاً في 2014 عن مخاطبة الناس مباشرة، ناهيك عن قيادة حملة انتخابية - هي مجرد إجراء شكلي.

الحراك يصيب "القبة" بالذهول

باغت إذاً اقتحام ملايين المتظاهرين الشوارع في كل المدن ذات جمعة - 22 شباط/فبراير 2020 - النظام بشكل كامل. اعتبر المواطنون أن الإعلان عن عهدة خامسة للرئيس بوتفليقة، المُنصّب في 1999 من قبل التكتل العسكري الذي يحكم البلاد إهانةٌ لهم. بلا شك، شكل هذا الأمر العنصر القادح الذي حفز استياءً عاماً، كان ظاهراً بشدة حتى قبل ذلك الحين. وفي حقيقة الأمر، وبكل تأكيد، لم يكن هذا التسونامي البشري للجمعة الافتتاحية عاصفة مفاجئة في سماء صيفية صافية. فلقد كان الرأي العام، الساخط للغاية على استعراض النهب، الذي تنغمس فيه طبقة رجال العصابات المتغطرسين حاكمي البلاد، يحتج منذ مدة طويلة على تدهور ظروف معيشته، التي تبقى ظاهرة "الحرقة" [2] مؤشراً مأساوياً عليه. دُعي إذاً الجزائريون، الغاضبون والمهانون، لكنهم بكل تأكيد غير المذعِنين، إلى المشاركة - وسط ذهولهم واحتقارهم - في ملهاة مأساوية يؤديها طاقم سياسي مصطنع وتابع ومبتذل، تدنّى إلى درجة التجوال بشكل عبثي تماماً، بصور رئيس لا يحكم حتى يظهر، في حملة انتخابية سوريالية.

لم يسبق أن تمظهر غضب المواطنين الصامت، لكن المحسوس تماماً منذ سنوات، بهذا الشكل العلني والمتحد وغير العنيف. حجم المظاهرات، واتساع نطاقها على كامل تراب البلاد كان مفاجئاً بقدر سلمية الاحتجاج. التعبئة الجماهيرية، وغياب أي شعار "هدّام" (المقصود هنا إسلامي!) والحضور الحاشد للنساء والجو المرح والهادئ للمظاهرات، كلها أمور ساهمت في تعزيز الطابع غير المسبوق بالمرة للحدث. المواكب الضخمة، المختلطة جداً، والملونة، للمتظاهرين المسترخين لا تشبه أي سابقة في سجل التعبيرات السياسية الوطنية بعد الاستقلال. السابقة الوحيدة التي يمكن مقارنتها شكلياً بالحراك، هي المظاهرات المطالبة بالاستقلال في 11 كانون الأول/ ديسمبر 1960. لم يستطع النظام المتمرس جيداً بإدارة أحداث شغب محلية تندلع باستمرار هنا وهناك لكل الأسباب الممكنة منذ عشرات السنوات - مراوحاً بين القمع وشراء ذمم "قادة" مزعومين - أن يستعيد التحكم في الزمن السياسي.

من المؤكد أن أعضاء "القبة" [3] تفاجؤوا بهذه الظاهرة. وكردة فعل قاموا بنشر منظومة هائلة من قوات شرطة مكافحة الشغب، وسعوا من حين لآخر خلال أول أيام جمعة من الاحتجاج إلى استفزاز المتظاهرين عبر أعمال قمعية أوقعت ضحايا [4]. لكن سرعان ما أدرك الجنرالات الحاكمون استحالة التعويل على القمع. فلقد كانت ذكرى الحرب المروعة ضد المدنيين في سنوات 1990 حاضرةً في كل الأذهان. حتى أكثر الجنرالات إصراراً وقسوة لم يفكروا إلا بتحفظ في استعمال للقوة مجهول العواقب. اتساع التعبئة، وطابعها غير العنيف تحت أنظار العالم بأسره (وهذا ليس أقل الأسباب أهمية)، وحقيقة أن الفِرَق الأمنية غير مضمونة، ساهم في منع القفز في المجهول الدموي.

سرعان ما تبيّن أن قمة النظام، المحشورة في الزاوية بلا وكلاء في المجتمع، والمنهكة أصلاً بخلافات عميقة بين الأقطاب الثلاثة للسلطة الحقيقية (قادة الشرطة العسكرية، وقادة الجيش، والمحيطين برئيس الدولة من أقاربه ورجال أعمال فاسدين) غير قادرة على الحفاظ على حد أدنى من الإجماع، وعلى أجندتها الانتخابية.

هيئة أركان الجيش تنتصر في حرب القمة

بعد سلسلة قصيرة من التأجيلات، تميزت خاصة بالاقتراح غير المنطقي بتأجيل الانتخابات لمدة سنة، "الوقت اللازم لتحضير انتقال ديمقراطي"، استرجع الجيش زمام المبادرة، وعزل عبد العزيز بوتفليقة، بكل بساطة ودون سابق إنذار، وذلك في 2 نيسان/أبريل 2019. استغل قادة "الجيش الوطني"، المتظاهرين واعتبروا انهم يصغون لصوت الشعب، والحراك - الذي يثنون عليه في العلن، ويشوهونه في حلقاتهم الداخلية - للبقاء في السلطة وتصفية حسابات قديمة، عبر تأكيد سطوتهم على مجمل أجهزة الدولة.

افتتحت استقالة / إقالة الرئيس حينها، والتي تبناها علناً رئيس هيئة أركان الجيش الجنرال قايد صالح مرحلةً من تصفيات الحسابات بين جماعات المصالح ("الجماعات" في اللغة المتداولة) التي تتقاسم السلطة [5]. تتشكل هذه الجماعات التي يقودها الجنرالات الأكثر نفوذاً، من موظفين ساميين، ورجال أعمال جشعين (الأوليغارشيين) لهم صلة مباشرة بالريع النفطي والغازي. تعوّل الجزائر على صادرات مواردها الأحفورية كمصدر أساسي للعملة الصعبة والجباية. وإذا ما كانت مختلف جماعات المصالح تتعايش بدون مشاكل خلال فترات الأسعار المرتفعة للمحروقات، فإنها عادة ما تدخل في صراعات خلال فترات تقلص الريع وتناقص نصيبها منه. وهذا ما حدث مثلاً في أواسط سنوات 1980، وأفضى إلى أحداث تشرين الأول/ أكتوبر 1988.

خلال فترة حكم بوتفليقة، ظهرت إلى العلن الخلافات بين مجموعات في قمة السلطة نتيجة التنافس منذ 2010 على الشركة البترولية العمومية "سوناطراك" وبعض فروعها. تتجزأ "القبة" إلى ثلاثة أقطاب بمصالح متباينة: قطب الرئاسة بقيادة السعيد بوتفليقة أخ الرئيس والسيد الفعلي لقصر المرادية [6] منذ تدهور صحة الرئيس، وقطب دائرة الاستعلام والأمن متجسداً في الجنرال محمد مدين، المعروف باسم "توفيق" [7]، وفي الخلفية - متخذاً تدريجياً وضعية الحكم - القطبُ العسكري الملتف حول قائد هيئة أركان الجيش مطلق النفوذ، الفريق أحمد قايد صالح. تحولت الخلافات بين القطبين الأولين إلى حرب مواقع في الأشهر التي تلت تهاوي أسعار البترول في 2014.

كانت مختلف جماعات المصالح تتعايش بدون مشاكل خلال فترات الأسعار المرتفعة للمحروقات، إلا إنها عادة ما تدخل في صراعات خلال فترات تقلص الريع وتناقص نصيبها منه. وهذا ما حدث مثلاً في أواسط سنوات 1980، وأفضى إلى أحداث تشرين الأول/ أكتوبر 1988.

منذ 2015، تمكنت هيئة أركان الجيش، بالاتفاق مع رئاسة الجمهورية من إقالة الجنرال "توفيق". سارت صفقة التعايش بين مجموعتي رئاسة الجمهورية، وهيئة أركان الجيش بشكل مرضٍ للطرفين إلى أن ظهر الحراك فانهارت بسرعة. منذ عزل الرئيس بوتفليقة، شرعت هيئة الأركان في تفكيك شبكة السياسيين – رجال الأعمال الفاسدين (وتفرعاتها العسكرية والبوليسية) المتشكلة حول سعيد بوتفليقة، وإقصاء حاشية الجنرال "توفيق" في أجهزة الاستخبارات والإدارة والأعمال. ذريعة التطهير معروفة، وتظهّر العلاقات المحرمة بين المجموعات في قمة السلطة. ويبدو أن سعيد بوتفليقة وتوفيق مدين اللذين تخاصما لمدة طويلة، قد حاولا التقارب بهدف التصدي لمناورات أركان الجيش، وفرض حل سياسي يتطابق مع مصالحهم.

أُلقي القبض على رأسي المجموعتين، والبعض من وكلائهم يوم 5 أيار/ مايو 2019، وتمت محاكمتهم وإصدار أحكام سجن ثقيلة بحقهم [8] في شهر أيلول/ سبتمبر من السنة نفسها. وأيدت محكمة الاستئناف، في شباط/فبراير 2020، قرارات المحكمة الابتدائية.

الحراك يعري النظام

من بين الآثار المباشرة للحراك، والملموسة أكثر، نجد الإثبات غير القابل للدحض لسيطرة قيادات "الجيش الوطني الشعبي" - المؤسسة الأقوى في البلاد بحكم الأمر الواقع - على الدولة. إثر عزل عبد العزيز بوتفليقة، انتقلت الرئاسة مؤقتاً إلى عبد القادر بن صالح، وهو شخصية باهتة بشدة، ويترأس مجلس الأمة، المؤسسة التي تماثل البرلمان في صوريّتها، وتمثل نهاية المشوار للموالين للنظام المجتهدين.

في البداية، كان يراد من تكليف رئيس بالوكالة، بداية من 2 نيسان/أبريل 2019، تغطية الفترة المتبقية من عهدة رئيس الجمهورية المعزول، وتنظيم انتخابات رئاسية في نهاية المدة الانتقالية. يظهر هذا التدبير بوضوح واحدة من الواجبات التي يحرص النظام على القيام بها، وتتمثل في إظهار احترام صارم لشكليات قانونية مفرغة من أي معنًى. الهدف من هذا المراعاة الزائفة للنص الحرفي للدستور هو تقديم إثبات للشركاء، الأجانب أساساً، على أن المنظومة تتأسس وتعمل حسب قواعد القانون...

منذ 2015، تمكنت هيئة أركان الجيش بالاتفاق مع رئاسة الجمهورية من إقالة الجنرال "توفيق". سارت صفقة التعايش بين مجموعتي رئاسة الجمهورية وهيئة أركان الجيش بشكل مرضٍ للطرفين إلى أن ظهر الحراك فانهارت بسرعة.

تخلصت البيروقراطية العسكرية - البوليسية من بعض وجوهها الأكثر فساداً، لكن انعدام كفاءتها بقي على حاله. أكد النظام العاجز عن تحديد موعد أن الانتخابات الرئاسية، التي كان يفترض تنظيمها في نيسان/ أبريل ثم تموز/يوليو، تم تأجيلها لكانون الأول/ديسمبر 2019، مع تمديد مهمة الرئيس الانتقالي لبضعة أشهر، في خرق صريح للدستور الذي التزم قائد هيئة أركان الجيش باحترامه بحذافيره. لكن العهد الذي أُعطي، والإعلانات الرسمية والوعود لا تلزم إلا الذين - وهم نادرون جداً- يمنحون مصداقية لمنظومة ورجال غير قادرين على التمسك بقواعد ضبطوها بأنفسهم.

بعد كنس منافسيها، أصبحت هيئة أركان الجيش تحتكر "القبة". تمّ إخضاع الشرطة السياسية، التي تشهد إعادة هيكلة مستمرة منذ إعفاء الجنرال "توفيق" الذي قادها طيلة 25 عاماً دون أن يزحزحه أحد، وتفكيك شبكات الموالين في المحيط الرئاسي. وأُحيل الجنرالات وكبار الضباط الذين يشتبه في انتمائهم إلى الشبكتين على التقاعد، أو سجنوا، أو فروا إلى الخارج (بعضهم حاملاً معه معلومات حساسة).

ضربت حملة التطهير، التي أطلقتها هيئة الأركان، قيادات عليا في النظام، رؤساء حكومات ووزراء، وأيضاً رجال أعمال من أصحاب الثروات العملاقة، التي جمعوها تحت حماية قادة جماعات مصالح في طور الانهيار حالياً. المحاكمات السريعة والمقتضبة التي تتالت بنسق متواصل، تمكننا على الأقل من أخذ فكرة عن جسامة الاختلاس والنهب عبر كشف أجزاء من طريقة العمل المافيوزية للمنظومة.

ويتم الترويج لتصفية الحسابات الواسعة هذه كنسخة محلية من عملية "الأيادي النظيفة" الإيطالية، دليلاً على إرادة الجيش الصادقة في الاستجابة لتطلعات الشعب. طبعاً، كل هذا لا أساس له من الصحة: الهدف من حملة التطهير العلاجية هذه هو إقناع الجميع بأن النظام بصدد إعادة تأهيل نفسه عبر القضاء على فروعه الأكثر تعفناً. حسب رواية رئيس أركان الجيش، فإنه وبهذا الشكل، لا يعود هناك مبرر للاحتجاج الشعبي. هكذا، بأقل التكاليف، ودونما مراجعة للطبيعة التسلطية والإجرامية للنظام.

هذه الاستراتيجية رديئة الصنع والإخراج ليست فعلاً مقنعة. فإلى حدود تعليقه بسبب الوباء في منتصف آذار/ مارس 2020، لم يتوقف متظاهرو الحراك عن تكرار، بكل الطرق الممكنة، الشعارات نفسها التي تدعو الجيش إلى مغادرة السلطة حتى يصبح من الممكن أخيراً أن تدير البلاد دولة "مدنية". لا توجد بالنسبة لهؤلاء المتظاهرين جماعات مصالح جيدة، وأخرى سيئة في قمة السلطة، فكل الحاكمين العسكريين ينتمون إلى "العصابة" نفسها... هناك "جماعة" واحدة تستحوذ على السلطة: جماعة القيادات العسكرية.

ضربت حملة التطهير التي أطلقتها هيئة الأركان، قيادات عليا في النظام، رؤساء حكومات، ووزراء وأيضاً رجال أعمال من أصحاب الثروات العملاقة، التي جمعوها تحت حماية قادة جماعات مصالح في طور الانهيار حالياً. المحاكمات السريعة والمقتضبة التي تتالت، تُمكّننا على الأقل من أخذ فكرة عن جسامة الاختلاس والنهب عبر كشف أجزاء من طريقة العمل المافيوزية للمنظومة.
الهدف من حملة التطهير العلاجية هذه، هو إقناع الجميع بأن النظام بصدد إعادة تأهيل نفسه عبر القضاء على فروعه الأكثر تعفناً. بينما لا توجد بالنسبة للمتظاهرين جماعات مصالح جيدة، وأخرى سيئة في قمة السلطة، فكل الحاكمين العسكريين ينتمون إلى "العصابة" نفسها... هناك "جماعة" واحدة تستحوذ على السلطة: جماعة القيادات العسكرية.

بعدما تبين لهم رفض الحراك الكلي لأجندتهم، جرّب جنرالات هيئة الأركان مقاربات مختلفة لإعادة بناء قاعدتهم - عبر تجديدها إلى حد ما- وإقناع الناس بصدق إرادتهم في التغيير. بعد مدة قصيرة من تسمية الرئيس المؤقت، كلف تباعاً وزراء سابقون - كانوا في الظل خلال فترة حكم بوتفليقة - بإدارة منتديات حوار وندوات وطنية [9]. كما تمت إعادة إحياء المجتمع المدني المصطنع والمدعوم مالياً - وهو صنيعة البوليس السياسي - في سعي لإعطاء أهمية لنقاش خارج السياق، وبعيد عن الوقائع السياسية ودينامية الحركة الشعبية. لكن هذه المناورات لم تصمد طويلاً، وتم التخلي عنها في نهاية الأمر، مما جعل النظام يغير وجهته، ويركز على انتخابات 12 كانون الأول/ديسمبر 2019 الرئاسية.

ثأر الجنرال أحمد قايد صالح

خلال الفترة نفسها، وبوتيرة خطاب واحد في الأسبوع على الأقل خلال زياراته التفقدية عبر أرجاء البلاد (مما استنزف صحته حسب الرواية المرخصة) كان أحمد قايد صالح، قائد أركان الجيش الوطني الشعبي، والوحيد المرخص له بالتحدث باسم النظام، المحرك الفعلي للحياة السياسية. إلى حين وفاته - التي تسببت فيها أزمة قلبية حسب الرواية الرسمية- حاول الجنرال العجوز (79 سنة)، بين اللعنات والتهديدات واللطف الخادع، إنهاء الحراك مع مواصلة اقتصاصه من كل الذين عارضوه في الجيش أو الأجهزة الاستخباراتية.

وكان أحمد قايد صالح يعتقد أن الحراك هو قبل كل شيء نتاج لمخططات لزعزعة الاستقرار، تنسقها أجهزة الشرطة السياسية التي بقيت وفية للجنرال "توفيق" مدين، خصمه المهزوم. وكان أيضاً مقتنعاً بأن هذه الشبكات، خاصة في منطقة القبائل، هي المدبر الفعلي للانتفاضة الشعبية. بناءً على هذه القناعة، وللعب على انقسامات لغوية مبالغ في تقدير أهميتها، تقرر التضييق على الحراك بإجراء قمعي (واستفزازي) في حزيران/يونيو 2019. وتترجم هذا المنعرج الأمني أساساً عبر منع رفع الراية الأمازيغية خلال المظاهرات، وهي الحجة التي استخدمت لتبرير أولى الاعتقالات في صفوف ناشطين من الحراك.

وفقاً للمحيطين بقائد أركان الجيش، فإن الشعارات المنددة به وبتواطئه المعروف مع الإمارات العربية المتحدة [10]مصدرها الصندوق الأسود النشيط جداً لما كان يعرف بـ"دائرة الاستعلام والأمن". هذا الهوس والارتياب لدى جنرال الجيش ليس له ما يبرره في الواقع، حتى وإن كان من المحتمل جداً أن أوساطاً قريبة من الرئيس السابق "للمخابرات" قد تكون سعت، بالتوازي مع قطاعات أخرى من الأقلية الحاكمة أو بالاتفاق معها، إلى تجيير وتوظيف الحراك. ذلك أن التخلص من المنظومة، العسكرية والبوليسية برمّتها، هو في قلب المطالب الشعبية. الذين يزدرون "العصابة" يعتبرونها كتلة واحدة غير قابلة للتجزئة مهما كانت تناقضاتها الداخلية. ولا يحظى أي وجه من وجوه "القبة" الحاليين أو المخلوعين برضا أغلبية المواطنين، التي تعرف بدقة القادة الحقيقيين لشبكات الفساد والعمولات غير القانونية. وبفضل تناقل شفهي للمعلومات منذ أمد طويل، جرى التفطّن للأخبار المضللة التي تبثها الشرطة السياسية، ويمتلك الرأي العام أيضاً معرفة جيدة بالتحالفات الخارجية للسلطة، ويعلم، فيما يتعلق بارتباطات قائد أركان الجيش، الدور السياسي الإقليمي المفوّض للإمارات العربية المتحدة [11] . لا أحد يجهل أيضاً دور إعادة تدوير رؤوس الأموال الذي تلعبه أبو ظبي، السوق المالي لبلد يتعاون معه "الجيش الوطني الشعبي" - دون أي مبرر عقلاني - في قطاعات جد حساسة [12].

لا أحد يجهل دور إعادة تدوير رؤوس الأموال الذي تلعبه أبو ظبي، السوق المالي لبلد يتعاون معه "الجيش الوطني الشعبي" - دون أي مبرر عقلاني - في قطاعات جد حساسة.

وفي جو ثقيل من المقاطعة، أُجريت في كانون الأول/ديسمبر 2019 الانتخابات الرئاسية، وهي إجراء شكلي غير مقنع مثل كل الانتخابات التي سبقتها، ففاقت نسبة العزوف عن المشاركة 85 في المئة حسب كل الملاحظين. الرئيس "المنتخب" عبد المجيد تبون، الذي يحظى برعاية وحماية قائد أركان الجيش، هو من الكوادر غير البارزين في نظام اضطر كلما أعاد إنتاج نفسه - "عبر عمليات بتر متلاحقة" حسب العبارة الشهيرة لحسين آيت أحمد - إلى البحث عن أعوانه في حوض قديم وناضب، وأكثر رداءة في كل مرة. لكن القبة تبحث عن هذا النمط من الشخصيات تحديداً: منخرط في المنظومة وطيع ومنضبط. أكثر من أي وقت سابق، يظهر قصر المرادية الرئاسي على حقيقته: ثكنة أخرى على خريطة السلطة الحقيقة.

الكوفيد 19، نعمة على النظام

يبدو أن وفاة الجنرال قايد صالح المباغتة، يوم 23 كانون الأول/ديسمبر، شكلت هدنة لعملية ثأر هيئة الأركان من شبكات دائرة الاستعلام والأمن. في الوقع أتت وفاة قائد الأركان الحقود جداً في الوقت الملائم لتسهيل إعادة بناء توازنات النظام.

لا يكّن الجنرال سعيد شنقريحة (74 سنة)، الرئيس الجديد لأركان الجيش، الضغينة نفسها تجاه القطب العسكري-البوليسي الآخر، أي المجموعة التي يقودها الرئيس السابق للشرطة السياسية. ويعود هذا الأمر لكون الجنرال شنقريحة، الذي كان مسؤولاً عن وحدات قوات خاصة في الجيش والشرطة السياسية، عُرفت بدمويتها الشديدة خلال الحرب ضد المدنيين في سنوات 1990، يعد من ضمن الذين اقترفوا جرائم ضد الإنسانية في تلك الفترة، وهم اليوم مهيمنون على قيادة الجيش والشرطة السياسية، أي السلطة الفعلية [13]. بالإضافة إلى هذا، يعلم الرئيس الجديد لأركان الجيش أن الجزائر تتجه نحو منطقة عواصف اقتصادية واجتماعية، وأن النظام في حاجة أكثر من أي وقت مضى لرص صفوفه، وتوحيد نفسه حتى يستطيع المجابهة. في انتظار تحقيق ذلك، تبقى أولوية النظام إنهاء الحراك، والعودة إلى الوضع السابق، مع التخلص من شخصيات عهد بوتفليقة الفاسدة الأكثر تسبباً للحرج.

وسط تكتم شديد، انطلق الجنرال شنقريحة - الذي تم تثبيته في منصبه كرئيس أركان الجيش في تموز/يوليو 2020- في عملية تقارب مع وجوه قريبة من دائرة الاستعلام والأمن المحلولة. إذ تم مثلاً تعيين ضباط متقاعدين مقربين من الجنرال توفيق في مناصب مهمة في مؤسسة رئاسة الجمهورية، في حين تم دون ضجة [14] إطلاق سراح آخرين حوكموا، وصدرت بحقهم أحكام مشينة. وحدهم المنتمون إلى محيط السعيد بوتفليقة ظلوا قرابيناً على المذبح العقابي للتغيير. ويرجع اختيار هؤلاء كقرابين تطهرية إلى عدم انتمائهم إلى قلب الجهاز العسكري-البوليسي مما يسمح بالتضحية بهم بسهولة وفي أي وقت، إذا هم غير قادرين على الإزعاج.

تعززت المصالحة الداخلية التي يقودها الجنرال شنقريحة - المقتنع بضرورة استعادة القبة لوحدتها حتى تواجه الحراك - بخطوات محسوبة (ما زال توفيق يقبع في السجن) بظهور وباء كوفيد-19. هذا الفيروس هبة من السماء بالنسبة للسلطة، التي ظلت في وضعية دفاعية طيلة أكثر من سنة. وما أخفقت فيه كل مناورات أجهزة التأثير النفسي التابعة للمخابرات، أنجزه الفيروس الجديد. قرر الحراك في منتصف آذار/مارس 2020 تعليق المسيرات الأسبوعية.

يحاول النظام استغلال انفتاح نافذة فرص، لاستعادة السيطرة على الوضع السياسي بطريقته المعتادة ما بين القمع والتلاعب. على جبهة الدعاية والتحريض، يتم إضفاء مصداقية على أطروحة "العصر الجديد"، التي ما انفك المكلفون بالإعلام والدعاية يرددونها، وبمشروع جديد لتعديل الدستور. هذا الطقس البيروقراطي ملازم لكل تغيير لرئيس الدولة، والرسالة هي نفسها دائماً: التأكيد على الطابع المدني للنظام، والالتزام بانفتاح ديمقراطي أكبر، وإثبات دور القائد الذي يلعبه رئيس الجمهورية المنصّب حديثاً من قبل الجيش الوطني الشعبي. وبالطبع، قليلون جداً من يعتقدون أن هناك أي معنى لهذا البند الشكلي [15] . من المعلوم للجميع أن الدستور نص لا قيمة إلزامية له بالنسبة لمنظومة قيادتها الفعلية خارج أطر المؤسسات، ولا تقدم حسابات لأحد ولا تحترم أي قاعدة.

فيروس كوفيد-19 هبة من السماء بالنسبة للسلطة التي ظلت في وضعية دفاعية طيلة أكثر من سنة. وما أخفقت فيه كل مناورات أجهزة التأثير النفسي التابعة للمخابرات أنجزه الفيروس الجديد. قرر الحراك في منتصف أذار/مارس 2020 تعليق المسيرات الأسبوعية.

لا تحظى تصريحات رئيس الدولة، صاحب الظهور الإعلامي المتضارب بصفة ملحوظة، إلا بسخرية المشاهدين. تتناقض السرديات القصيرة والمنمّقة حول "الجمهورية الجديدة" أو "الجزائر الجديدة" التي ينوي تجسيدها والترويج لها مع اشتداد القمع. في الواقع تشكل حملة التضييق والاعتقالات المستعرة التي أطلقتها الأجهزة البوليسية، والتي تراقب شبكات التواصل الاجتماعي عن كثب، التكذيبَ المفتوح والمتواصل لقائمة النوايا الحسنة، التي يكررها الرئيس في كل ظهور تلفزي له.

يتم منذ عدة أشهر حبس عشرات الناشطين، ويحاكمون وتصدر بحقهم أحكام ثقيلة، فقط لأنهم استعملوا حقهم في التعبير. طيلة التاريخ القاتم للاعتداءات على الحريات التي اقترفتها الديكتاتورية، وباستثناء قمع "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" في بداية "الحرب القذرة" (عقد التسعينات الفائت)، لم يسبق أن تم الزج بمثل هذا العدد من المواطنين في السجن، لتجرئهم على الخوض في الوضع السياسي للبلاد. ينضم عشرات سجناء الرأي إلى صحافيين ومناضلين سياسيين وراء القضبان، بالإضافة إلى سجناء منسيين منذ أيام الحرب ضد المدنيين في عقد التسعينات. مورست الرقابة على مواقع إخبارية وحجبت [16] وهددت صحف علناً من قبل السلطة التنفيذية، التي استعادت الممارسات السائدة في حقبة الحزب الواحد البعيدة [17]، لكن دون أن يكون لها المهارة والحنكة نفسيهما.

الجزائر الجديدة: انعدام الكفاءة والتسلط المتجددين

هكذا، ينكص النظام المتصلب، والذي يعيش منذ أمد طويل حالة احتضار يحاول تمديدها مهما كانت الكلفة، إلى الأساليب المترسخة في معدنه السياسي الأصلي. ويبقى التسلط والتعسف لترهيب الشعب هي الحلول الآلية لتنظيم غير قادر على تحمل أقل انفتاح خوفاً من الانهيار. وتتظافر مع كل هذا حملات تشويه وشيطنة لفاعلين سياسيين شرفاء محترمين. كما تم حشد أبواق النظام لإنتاج سرديات دعائية رديئة وفجة، تصور بعض الوجوه البارزة في الحراك كعملاء للخارج [18].

تَظهر علناً استعادة أجهزة التأثير النفسي المعتنِقة لأساليب توفيق لنفوذها - والتي تمرست خلال سنوات "الحرب القذرة"- من خلال عودة خطاب إقصاء وشيطنة الإسلام السياسي. تتمفصل مناورات بث الفرقة في صفوف الحراك، بشكل جلي، حول التناقض الزائف بين المعارضات العلمانية والإسلامية.

لكن السياق الذي يتصف بهيمنة الإدارة العشوائية للأزمة الصحية. غياب التنظيم على كل المستويات (فوضى في إدارة المشافي، عدم احترام إجراءات الحجر الصحي...)، يظهر بوضوح التعطل الشامل للإدارة وتهاونها. تؤكد التصريحات الانتصارية للسلطة التنفيذية، حول ما تزعمه من "سيطرتها على الوضع"، فقدانها الصلة بالواقع. استحالة تطبيق الحجر الصحي دون اللجوء إلى طرق تشبه حالة حصار غير معلن - مثل غلق كل المنافذ البرية للعاصمة قبل يوم من عيد الأضحى لتجنب تنقل الناس لذبح الأضاحي - يخبرنا الكثير عن أخلاقيات بيروقراطية خبيثة وقمعية.

كما أن النظام عاجز عن اتخاذ إجراءات بسيطة لمساعدة الفاعلين الاقتصاديين في استئناف - محفوف بالمصاعب- نشاطهم ووصل ما انقطع، أو ضمان دخل أساسي لعشرات آلاف الشغيلة، خاصة الذين يعملون في القطاع غير المهيكل، ويعانون البطالة منذ بداية انتشار الوباء. تدهورت هذه الوضعية أكثر بسبب التعطل الكامل للإدارات، كما أن شح السيولة الذي يمس القطاع البنكي، هو تمظهر عقابي للغاية في بلد لا يوجد فيه أي شكل آخر لتسوية المعاملات. وسط الفوضى والالتباس المقصودين، يشكل التصلب العسكراتي والخبث الفظ والمتلاعب، بالإضافة إلى احتقار الشعب، القواعد الثابتة للسلطة.

من المعلوم للجميع أن الدستور نصٌ لا قيمة إلزامية له بالنسبة لمنظومة قيادتها الفعلية خارج أطر المؤسسات، ولا تقدم حسابات لأحد ولا تحترم أي قاعدة. وفي نهاية مسار الحسابات الخاطئة والإهمال والنهب، ستتحمل الفئات الأكثر هشاشة، التي تعيش أصلاً ظروفاً يرثى لها، تكلفة الأزمة الاقتصادية.

على الرغم من الخطاب الإنكاري الذي تكرره أبواقها كتعويذة، يعلم حكام البلاد الفعليون، أنه يتوجب عليهم مواجهة استحقاقات اقتصادية واجتماعية لا مفر منها. أدى تقلص عائدات المحروقات إلى انخفاض كبير جداً لمستوى احتياطي العملات الصعبة، الذي لم يعد يغطي أكثر من واردات سنة واحدة (مقابل 3 أو 4 سنوات في 2013). ومما يثير القلق أيضاً أن الحاكمين بعدما استنفذوا كل الحلول النقدية الترقيعية لا يمكنهم إلا أن يعاينوا حجم العجز الهائل في الميزانية. وكما هو محتم، يجد النظام نفسه مجرداً من هوامش المناورة المالية، ومن وسائل تخدير الغضب الاجتماعي. وفي نهاية مسار الحسابات الخاطئة والإهمال والنهب، ستتحمل الفئات الأكثر هشاشة، التي تعيش أصلاً ظروفاً يرثى لها، تكلفة الأزمة الاقتصادية. عودة الحركات الهجرية غير النظامية نحو أوروبا، "الحرقة"، هو مؤشر فصيح عن التدهور العام. كيف ستكون الأمور غداً، مع نهاية سنة 2021 عندما تصبح العائدات السنوية غير كافية لتغطية فاتورة الواردات الأساسية؟ ما هي المخارج الممكنة للنظام عندما تكون وفرة السلع الحياتية الأساسية وأسعارها، ما بين الندرة والشح، فوق قدرة أصحاب المداخيل المتدنية؟

ديكتاتورية جامدة ومجتمع متحرك

أي معجزات وأي مساعدات من بلدان "صديقة" أو مؤسسات مالية "متفهمة" يمكنها أن تغطي الاختلالات بالغة الخطورة لبلد فيه أكثر من 44 مليون إنسان؟ كما يبين لنا التاريخ، فإن هذه المعونة هي دائماً خطابية ودبلوماسية أكثر مما هي حقيقية وملموسة. ومع ذلك يمكن للنظام أن يراهن على الدعم السياسي لصلاته الخارجية، كما رأينا ذلك في تموز/يوليو 2020 مع الحلقة السخيفة المتمثلة في إرجاع فرنسا لجماجم مقاومين تاريخيين إلى الجزائر [19] . طريقة إدارة هذا الحدث ذي الشحنة الرمزية القوية، والذي اختير موعده ليكون هدية اتصالية من الراعي النيوكولونيالي إلى نظام الجزائر، أظهرت خاصة طبيعة علاقة هذا النظام بالعاصمة القديمة (باريس).

وإذا ما كنت الأزمة الصحية قد منحت النظام فسحة من الوقت غير متوقعة، فإنه لم يستغلها أبداً للاستجابة، حتى في الحد الأدنى، لتطلعات الشعب. تسعى السلطة الجزائرية، المتركزة بين أيادي كبار قادة الجيش والشرطة أكثر من أي وقت مضى، بكل الوسائل إلى منع عودة الحراك بعد نهاية الأزمة الوبائية. لكن هذا الانبعاث، الذي يشكل وسواساً مرعباً للديكتاتورية راسخٌ في المجرى الطبيعي لتاريخ البلاد. مكنت الإدارة الكارثية للأزمة الصحية من تقدير مدى عزلة الدولة عبر تغذية السخط والغضب. فقد بلغت الفجوة التي تتسع بين السلطة والمجتمع حداً لا يمكن معه تصور العودة إلى الوضع الذي كان قائماً قبل 22 شباط/ فبراير 2019.

على الرغم من الخطاب الإنكاري، يعلم حكام البلاد الفعليون أنه يتوجب عليهم مواجهة استحقاقات اقتصادية واجتماعية لا مفر منها. أدى تقلص عائدات المحروقات إلى انخفاض كبير جداً لمستوى احتياطي العملات الصعبة، الذي لم يعد يغطي أكثر من واردات سنة واحدة.

تقدم المجتمع الجزائري في العشريات الأخيرة وانفتح بشكل كبير - تحت تأثير العصر الرقمي - على الرهانات المعاصرة. وعزز الحراك هذا النضوجُ السياسي والثقافي، وأظهره للعالم في تعدديته السلمية والديمقراطية. عقل النظام متأخر بمقدار سنوات ضوئية عن مجتمع يتحول بسرعة، وهو يعطل بشكل منهجي تطلعاته إلى دولة القانون والتنمية.

ما زالت المنظومة المتشكلة حول الجيش والمخابرات، والقاتلة للحريات والناهبة للثروات، غير ممسوسة في تنظيمها، ثابتة على رفضها للقانون ومتمسكة بأساليبها. تقود الديكتاتورية العسكرية-البوليسية المتخلفة والمتجمدة، بتسلط فج وانعدام كفاءة نادر، الجزائر نحو فضاءات فوضوية.

وغداً؟

تبدو آفاق ما بعد الحجر الصحي مقلقة بشدة. هل يعوّل النظام المنبثق عن انقلاب 11 كانون الثاني/يناير 1992، والذي طالما خدمته الظروف، على انقلاب اتجاهات الأسواق النفطية، وعودة الأسعار المرتفعة وبعض الرخاء المالي؟ يقوم الاقتصاد السياسي لسلطة ناهبة وعقيمة وعاجزة بشكل جلي عن إصلاح نفسها، بشكل كامل على الريع - على الرغم من تقلصه الشديد - لضمان ديمومتها عبر شراء ذمم داعميها، وتخدير الاحتجاجات الشعبية.

القمع البوليسي، المدعوم بقضاء مذلول، ومناورات التأثير النفسي، هي الأدوات الأخيرة لنظام محاصر ومستنفر. لا حاجة لأن يكون المرء علاّمة ليقدر الخسائر التي تتسبب فيها هذه الأساليب، والآثار متعددة الأبعاد لوضعية الهروب إلى الأمام في اتجاه الكارثة. من هذا المنظور، يتبين لنا بوضوح أكبر أن السلطة تخوض معركة غايتها إبطاء وتأخير الأمر المحتوم. تعيد السلطة تشكيل نفسها حول أسسها الجوهرية، وتتحضر لمواجهة عنيفة مع المجتمع. يقدر قادة الجيش، الذين يعدون من بين اللاعبين الأكثر ضراوة خلال الحرب القذرة ضد المدنيين، أن "صعق" [20] الجسم الاجتماعي - بعبارات أخرى بلا شك -هو الثمن اللازم لاستعادة الديكتاتورية والأوضاع العادية.

من الوهم البحث عن مخارج للأزمة العامة، الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، عبر مقاربات تقنية أو مالية غير مجدية. يمر بالضرورة الخروج من النموذج الريعي، وخلق قاعدة إنتاجية عصرية، وإعادة تأهيل الدولة، يمر عبر تجاوز الأشكال التسلطية لحكم سلطة متحجرة. وكذلك فإن إعادة البناء الوطني تشترط احترام الحريات العامة ودولة القانون.

حتى من دون "استراتيجية الخيار الأسوأ" هذه، فإن مخاطر انهيار الدولة في ظل ظرفية أزمة عامة محتدمة ليست مجرد فرضيات محضة. اللوحة قاتمة، لكن الأسوأ، كما يبين التاريخ ذلك، ليس قدراً محتوماً. بالاستطاعة مجابهة هذه الأزمة الاقتصادية، كما أن إيجاد طرق للتعافي والانتعاش ممكنٌ تماماً. فلقد عبَرت بلدان أخرى مناطق اضطرابات أكثر إشكالية وخرجت منها مزدهرة وأكثر قوة. الرؤية السياسية الثاقبة التي أظهرها الحراك، والإبداع الشعبي، والموارد الضخمة من الكفاءات، غير المستغلة لكن المتوفرة، تشكل قاعدة ميثاق سياسي معترف به يحترم كرامة الجميع. في هذا المستوى بالذات يتموضع الشرط الأولي الأساسي لحل مجمل المشاكل التي تواجهها البلاد.

من الوهم البحث عن مخارج للأزمة العامة، الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، عبر مقاربات تقنية أو مالية غير مجدية. يمر بالضرورة الخروج من النموذج الريعي، وخلق قاعدة إنتاجية عصرية، وإعادة تأهيل الدولة عبر تجاوز الأشكال التسلطية لحكم سلطة متحجرة. وكذلك فإن إعادة البناء الوطني تشترط احترام الحريات العامة ودولة القانون.

هذه هي الشروط اللازمة لكي يستعيد المجتمع المتحرر الثقة في مصيره، ويتمكن الشعب أخيراً من تعبئة إمكانيات إعادة بناء دولة قابلة للحياة يجد فيها نفسه تماماً، وتكون الجزائر، في ديناميكيتها التحررية القديمة جداً وتعطشها إلى الحرية، قادرة أخيراً على تحضير مستقبل يمنح الجميع أسباباً للعيش والأمل.

ترجمه عن الفرنسية: محمد رامي عبد المولى

عرض مباشر : السفير العربي

محتوى هذه المطبوعة هو مسؤولية السفير العربي ولا يعبّر بالضرورة عن موقف مؤسسة روزا لكسمبورغ.

[2شهدت ظاهرة "الحرقة"، وهي حركة هروب الشباب الجزائري نحو أوروبا بحراً وبلا أوراق ولا تأشيرات، تراجعاً خلال الحراك، لكن يبدو أنها عادت بقوة في المدة الفائتة. انظر مقال "الحراقة الجزائريون يتدفقون على السواحل الإسبانية"، نشر بالفرنسية في ObservAlgérie بتاريخ 27 تموز/يوليو 2020.

[3نسبة لكلمة cuppola من المؤكد أن أعضاء "القبة" نسبة لكلمة cuppola الإيطالية، والتي تعني في لغة المافيا السلطة العليا للتعديل والتنسيق بين العصابات العضو في منظمة "كوزا نوسترا".

[4انظر المقال المنشور على موقع elwatan بتاريخ 01 آذار/مارس 2020.

[5انظر مقال عمر بن درة : "جزائر الأوليغارشيين: تحالف الحراب والخزائن". نشر على موقع Algeria-watchبتاريخ 10 كانون الأول/ ديسمبر 2014.

[6يقع القصر الرئاسي في مرتفعات الجزائر العاصمة، في منطقة المُرادية (كانت تسمى لو غولف) داخل ثكنة قديمة كانت تابعة لجيش الاحتلال الفرنسي.

[7جنرال "ينايري" (نسبة لانقلاب 1992)، اقترف جرائم ضد الإنسانية وترأس "دائرة الاستعلام والأمن" أي الشرطة السياسية بين 1990 و2015

[8انظر المقال المنشور على موقع jeuneafrique.com بتاريخ 26 أيلول/سبتمبر 2019.

[9تم تكليف كل من عبد العزيز رحابي وكريم يونس على التوالي في تموز/يوليو وآب/أغسطس 2019 بتنسيق "المنتدى الوطني للحوار" بالنسبة للأول، وإطلاق "ندوة وطنية" بالنسبة للثاني. ولقد تكلل كلا المشروعين، اللذين لم يلقيا صدى في المجتمع، بالفشل الذريع.

[10عشية اندلاع الحراك تحديداً، كان أحمد قايد صالح يؤدي واحدة من زياراته المتكررة إلى أبو ظبي. انظر المقال المنشور على موقع algeria-watch بتاريخ 21 شباط فبراير 2019.

[11في علاقة بالدور الجيوسياسي للإمارات العربية المتحدة، انظر هذا المقال المنشور بالفرنسية في موقع مجلة Lepoint بتاريخ 23 أيار/مايو 2019.

[12مقال حول الشراكة التجارية والصناعية بين الجيش الوطني الشعبي وأبو ظبي. نشر على موقع elwatan.com بتاريخ 21 تموز/يوليو 2019.

[13انظر مقال " من هو الجنرال سعيد شنقريحة؟ شهادة لحبيب سوايدية". المنشور بالفرنسية على موقع Algeria-Watch بتاريخ 28 كانون الأول/ديسمبر 2019.

[14الجنرال جبّار مهنا، واحد من معاوني الجنرال توفيق الأكثر شراً وأذية.

[15حول مشروع الدستور انظر مقال "دستور الجزائر الجديدة لا يحظى بالإجماع" المنشور بالفرنسية في جريدة لوموند بتاريخ 12 أيار/مايو 2020.

[16حول حجب وسائل الإعلام انظر مقال رضوان بوجمعة: "لا يمكن أن نطور المنظومة الإعلامية دون تحول المنظومة السياسية"، المنشور بتاريخ 18 نيسان/ أبريل 2020 على موقعAfrik.com .،

[17انظر مقال رضوان بوجمعة "الصحافة رهينة للمصالح المالية والبيروقراطية"، نشر على موقع algeria-watchبتاريخ 13 تموز/يوليو 2020.

[18انظر نقد خالد ساطور للأطروحات التي يروجها أبواق النظام. نشر على موقع algeria-watch بتاريخ 25 حزيران/يونيو 2020.

[19انظر المقال المنشور بالفرنسية على موقع histoirecoloniale.net بتاريخ 10 تموز/ يوليو 2020.

[20الكلمة للملك المغربي الحسن الثاني، استعملها في سياق تعليقه على التوترات السياسية التي سادت الجزائر بعد أحداث تشرين/أكتوبر 1998

Navigation

Suivre Intercoll.net

الشبكات الاجتماعية - RSS