تونس. الحركات الاجتماعية تمهد لثورة جديدة

, par  Orient XXI, منير السعيداني

متظاهرون بمحطة الضخ في الكامور، 16 يوليو/تموز 2020.
فتحي نصري، وكالة وكالة فرانس برس.

من الأحداث التاريخية الفارقة في افتتاح الحركات الاجتماعية في تونس طورًا من حياتها مغايرًا لما كان خلال كامل الحُكْمَين البورقيبي والبنعلي، تعدُّ انتفاضةُ الحوض المنجمي لسنة 2008 مثالا أُنْمُوذَجِيًّا. كانت المدن المنجمية الواقعة في جنوب تونس الغربي هي مسرح الانتفاضة التي انطلقت بمجرد الإعلان عن مناظرة تشغيل بشركة فسفاط قفصة تم التشكيك في نزاهة نتائجها.

من الاحتجاج على النتائج التي فُصِّلَتْ كما المعتاد بتوافق بين إدارة الشركة الحكومية الأكثر تشغيلا في المنطقة والنقابة العمالية والسلطة الجهوية الإدارية والأمنية وهياكل التجمّع الدستوري الديمقراطي (الحزب الحاكم)، تمّ الانتقال بسرعة من استهداف إدارة الشركة وسياساتها التشغيلية إلى استهداف السلطات العمومية الجهوية فالمركزية. وكان من السمات الجديدة في هذه الانتفاضة آنذاك استهدافها للسياسات العمومية في نقطة مفصليّة (التشغيل)، وتمكّنها من الاستمرار رغم بشاعة القمع والمحاصرة، وتعبئتها حَشْدًا مُسَانِدًا مُوَاطِنيًّا وشعبيا واسعا. ولكن، وعلى الرغم من مظاهر جدتها هذه، احتفظت الحركة ببعض سمات الحركات الاجتماعية القديمة من حيث اشتراك مناضلين نقابيين فيها بل وقيادتها أحيانا، وتكوين لجان المساندة من ضمن المجال السياسي الرّسميّ والتقليديّ، وانحصارها في مَوْقِع مَنْشَئِهَا الأَصْليِّ.

تنظيم على المستوى الوطني

على غير هذا المثال، وفي سياق ما تولّد عن 17 ديسمبر/كانون الأول 2010-14 يناير/كانون الثاني 2011، تعدّدت الأشكال النضالية الجديدة (اعتصامات في العاصمة يأتي المشاركون فيها من ’الدّواخل’، مسيرات حاشدة على امتداد عشرات الكيلومترات، ...) وظهرت الأطر النضالية غير المسبوقة (انتظامٌ ذاتيٌّ قاعدي، تنسيقيات، لجان اعتصام، مجالس حماية الثورة، لجان حماية الثورة...) وطُرحت القضايا المستجدة (عَطَشُ الأهالي والدّواب والأراضي الفلاحية، مطالب بيئية، الاقتصاد الاجتماعي غير الربحي،...) بحيث أسهمت الدورة الاحتجاجية في تحوّل الانتفاضة إلى ثورة.

وفي هذا السياق، مثّلت الجامعة الصيفية الأولى للحركات الاجتماعية (قُرْبَة، 23-25 سبتمبر/أيلول 2016) إطلاقا لأشكال مختلفة من التقارب بين الحركات القائمة انتهى إلى تأسيس “التنسيقية الوطنية للحركات الاجتماعية” التي جمعت عددا من المناضلين يمثّلون حركات ناشطة في القصرين وقفصة وسيدي بوزيد وقرقنة وجندوبة والقيروان ومدنين وقبلي وتطاوين وفرنانة وتوزر... إلخ. ثمّ امتدَّ ذلك التنسيق وتعزّز إلى حدّ انعقاد المؤتمر الوطني الأوّل للحركات الاجتماعية (نابل 24-26 مارس/آذار 2017) الذي أكد (من ورقته التوجيهية) بلورة “الفاعلين الاجتماعيين الجدد صِيَغَ تعبئة وتنظّم واحتجاج من خارج الأطر التقليدية المعروفة من أحزاب ونقابات ومنظمات”، “... مع تمسّك الحركات الاجتماعية بخصوصيتها المطلبية والمجالية ورفضها الانصهار في صيغ معمّمة”، على أساس الوعي بـفعل “آليات الوصم والتشويه التي تستهدف الفاعلين الاجتماعيين” ومثول أخطار على طريق “تثبيت الخيار الديمقراطي الاجتماعي لروح الثورة التونسية” (نفس المصدر).

وقد بيّنت أشغال المؤتمر التنوّع الذي وسم الحركات الاجتماعية على امتداد الفترة 2011 -2017، على مستويات الفئات العمُرية-الاجتماعية، مع غلبة الشّباب والنّساء، والمناطق، والأشكال النضالية المعتمدة في مختلف التجارب الكفاحية (التظلّم، الاحتجاج، إقامة اقتصاد بديل،...). وبمساعدة حاسمة من منتدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وهياكل نقابية تابعة للاتحاد العام التونسي للشغل، أتمّ مناضلو الحركات الاجتماعية خلال المؤتمر تأسيس “التنسيقية الوطنية للحركات الاجتماعية” بحيث تؤمّن استمرارية الجامعة الصيفية للحركات الاجتماعية ومؤتمرها الوطني. وقد حسم ابتداع الأدوات التنظيمية الثلاث (التنسيقية والجامعة الصيفية والمؤتمر الوطني) اتّجاه الحركات الاجتماعية في تونس نحو الجدّة الكاملة ببناء إطارٍ للفعل الجماعي يُخرجها من العُزْلة الإقليمية إلى التشبيك النضالي، ويكسبها هوية نضالية مشتركة، ويوحّدُ استهدافها المسؤولين عن أوضاع الحرمان واللاعدالة والإنكار التي يكابدها الضحايا (خريجو جامعات عاطلون، نساء، فئات مقصيّة من العمليات الإنتاجية، مجموعات مُبْعدة من العمليات السياسية،...) ويحدّد لها موقعًا إزاء الحركات الاجتماعية التقليدية من نقابية ومدنية وجمعياتية. أما سياق المؤتمر الثاني للحركات الاجتماعية (سوسة، مارس/آذار-أبريل/نيسان 2018) الذي انعقد تحت شعار ’’تنوع-صمود-تضامن’’ فكان متَّسِمًا بتزايد عدد الاحتجاجات الاجتماعية حيث مرّت من 4416 سنة 2015 إلى 8713 سنة 2016، فإلى 10452 سنة 2017 [1].

ولئن كانت المظاهر السابق عرضها تندرج في مزيد اتضاح-رسوخ جدّة الحركات الاجتماعية في تونس ما بعد الثورة مقارنة بما كان قبلها، فقد انبنت حركاتٌ اجتماعية على غير هذا المنوال، ومنها حملة “مانيش مسامح” غير المسبوقة.

أُنْمُوذَجٌ مُنْشَقٌّ... ولكنّه محدود الانغراس اجتماعيًّا

ركّزت الحملة على التصدّي لمشروع قانون المصالحة الاقتصادية الذي قدمته الحكومة إلى البرلمان تطبيقا لما أعلن عنه الرئيس(آنذاك) باجي قائد السّبسيّ بعيد عملية باردو الإرهابية (مارس/آذار 2015)، ويهدف النص إلى العفو على الموظفين الذين أسهموا في الفساد خلال فترة حكم الرئيس السابق بن علي. وانطلقت الحملة منذ الإعلان عن مقترح القانون (أغسطس/آب 2015) واستمرت حتى المصادقة على نصه في مجلس نواب الشعب (13 سبتمبر/أيلول2017). وكانت (من إعلان إطلاق الحملة )“مبادرة مواطنية مستقلة مفتوحة أمام كل من يريد الانضمام (...) تسعى إلى تجميع كل المواطنين وكلّ المكونات السياسية والحقوقية والفكرية حول مَهَمَّة سحب قانون المصالحة”.

كانت نتيجة تلك النضالات ابتداعُ أنموذَج مميَّز من الحركات الاجتماعية، أولى خصائصه هي تسمية ’الحملة’، مع تعدّد المشارب السياسيّة والأيديولوجيّة، والمرور بتجارب سياسية ونضالية متنوعة. في شعارات الحملة، حضرت الأفكار اليسارية والعروبية والوسطية الاجتماعية الراديكالية وتعايشت، على أساس التساوي المتعدد والاعتراف بالحق في الوجود والتعبير. ومن سمات هذه الحركة سوسيولوجيا، غلبة الشباب، من الجنسين، على قيادتها، من بالغي التعلّم الجامعي (علوم تقنية وصحيحة وإنسانية واجتماعية ولُغات)، وغلبة أصيلي المدن الداخلية والأحياء الشعبية والمتوسطة في المدن الكبرى على خزانها البشري الرئيس، وانتماؤهم بالبُنُوَّةِ إلى الطّبقات الوسطى الحضرية وموظفي القطاع العمومي على الأخصِّ.

ومع أن الحملة ظلَّت مدينية-حضرية، وبالأساس عاصمية، وشبابية، ومتعلّمة ونخبوية إلى حدّ بالغ فإنَّها تمكّنت من أن تكسب رهان التجديد ضمن الحركات الاجتماعية في تونس ما بعد الثورة. وعلى ذلك بَدَتْ على خطٍّ مُوازٍ لتأكيد مندوبي المؤتمر الثّاني للحركات الاجتماعية (من الإعلان الختامي للمؤتمر) عزمهم على “إعادة بناء الحزام الحقوقي والمدني الدّاعم للحركات الاجتماعية من خلال شبكة المحامين ودور اللجنة الوطنية للدفاع عن الحركات الاجتماعية” بوضع خطة نضالية وإعلامية مناسبة لذلك و(من نفس المصدر)“ربط نضال الحركات الاجتماعية والفئات الهشة بنضال القوى الاجتماعية والوطنية الأخرى النقابية والمدنية في مجال المقاومة الفعلية” في معناها الاجتماعي العام.

أنموذج مبتدعٌ جديد: الكامور

اعتادت التحاليل السوسيولوجية أن تقول إن المفترق التي تجد الحركات الاجتماعية نَفْسَها إِزَاءَهُ هو بالضبط ذات المفترق الذي يَمْثُلُ أمام كلّ الحَرَكَات الاجتماعية التي تبني إطارا للفعل الجَمَاعِيِّ: إما التطوّر نحو جبهة سياسية تعبّر عن كتلة تاريخية فاعلة في مستقبل التغيير الاجتماعي في البلاد أو التذرّر في حركات جزئية غير فاعلة. وبدا من مثال اعتصام الكامور الأول (مارس/آذار-يويليو/تموز 2017) أن الاحتمال الثاني هو الذي تحقّق.

انطلقت احتجاجات الكامور على صيغة مظاهرات عمّت منطقة قصر أولاد دبّاب في أقصى الجنوب الشرقي للبلاد (500 كيلومتر جنوب العاصمة) ورفعت مطالب التشغيل والتنمية في هذه المنطقة التي تعد شركات نفطية، لتنتشر في كل أرجاء ولاية تطاوين وتصل بعد أيام إلى وسط عاصمتها التي انتصب فيها الاعتصام. ثم كان التحرّك الأقوى منع الشاحنات والسيّارات الوظيفية التابعة للشركات الاستخراجية البترولية المشرفة على الآبار المنتجة المنتشرة في الجوار من المرور إلى موقع ضخ البترول المستخرج. تم وضع الخيام على الطريق، ولكن، ولأن الاعتصام كان في وسط مدينة تطاوين فإنه لم يتمكن من منع الشاحنات من الوصول إلى محطة الضخ والتزوّد بالبترول عبر طريق دائرية. ردًّا على ذلك، تمّ الرفع من درجة الاحتجاج بالاعتصام قرب الصمام الرئيس والتهديد بإيقاف الضخ.

خلال هذه الفترة، كان المعتصمون قد دأبوا على عقد اجتماعات عامّة بشكل منتظم بهدف مناقشة المستجدات. وكانت الكلمة الفصل تعود إلى ’القاعدة’ حيث اختار المعتصمون أن يكون منهاج أخذ القرار أفقيا في إطار نظام ديمقراطي تشاركي. كانت مواضيع النقاش تطرح داخل التنسيقية التي تقرّر الاجتماع وتعلم رؤساء النقاط ويتم بناء الموقف من خلال التشاور الذي يسهم فيه الجميع ويحسم بنتائج التصويت. وفي الأثناء كان الشبان المعتصمون يقضّون كثيرا من الوقت على هواتفهم الجوالة مستفيدين من تغطية جيّدة للشبكة في قلب الصحراء، يتبادلون الأخبار مع الأقارب حتى خارج حدود البلاد، وكانوا يتناوبون على المكوث في خيام الاعتصام المنتصبة حوالي “الفانه” (أي أنبوب الضخ، بتعريب الكلمة الفرنسية). ومنذ أشْهُرِ اعتصام الكامور الأوّل الخَمْسِ كانت ملامح الأنموذج الجديد بصدد الاتضاح، متّجهة أكثر فأكثر نحو اكساب مقومات الرّسوخ مَجَالِيًّا واجتماعيًّا.

نجح المحتجون في منع فك الاعتصام بالقوة الأمنية رغم سقوط ضحية، وتم توقيع اتفاق نهائي في يوليو/تموز 2017 لم تلتزم به الحكومة آنذاك. وفي عودتهم إلى التحرك خريف 2020، استحضر شباب الكامور مخزون التربية النضالية الذاتية التي مروا بها خلال الاعتصام في بناء أنموذج جديد من الحركات الاجتماعية. وتبدو خصائص هذا الأنموذج في البنية الهيكلية وفي استراتيجيا بناء المطالب وفي كيفية خوض المعركة وفي المناورة في أثنائها.

أوّل ما ظهر من الحركة هو سيطرة الشباب المتمّرسين على عدّاد الضخ وإيقاف تدفق المادة البترولية. كانت الحركة مبنية بنفس تركيبة اعتصام 2017، من الشباب متزايدي النُّضج النضالي، مُوزّعين على نقاط الاعتصام ’المعهودة’. ولكن ذلك لم يكن إلاّ ما يظهر من عُمْق مدني كثيف ممتدّ الصِّلاَت مع الاتّحاد العام التونسي للشغل في المستوى المحلي، والجمعيات التنموية والمنظّمات الأهلية المختلفة. وتحت هذا المستوى، وفي عمق الحاضنة الشعبية، كان نسيجٌ من الانتماءات العائلية-العشائرية-القبلية سحيقٌ. ما يجمع بين مكوّنات النسيج تَوَاشُجٌ نفسيّ اجتماعيٌّ غائِرٌ يَسِيرٌ عليه تشغيلُ الذّاكرة القريبة الحافظة لمُجْرَيَات اعتصام الكامور الأول وتجاربه ودروسه، كما الذاكرة البعيدة بجراحها الحقيقية والمتخيّلة. طبقات الذاكرة هذه ومواقعها وعلاماتها كانت تقابل طبقات النسيج الاجتماعي المبني حول الاعتصام ومطالبه. في هذا المنظور يمكن أن نفهم الامتداد التاريخي للمعنى الذي اكتسبه الاعتصام، ورسوخه مجاليًّا واجتماعيًّا.

مكنت تركيبة النسيج الاجتماعي الحاضن للاعتصام، برأسها المفاوض وعمقها الشعبيّ، من مسّ أطياف المجتمع المحلي بكامل مكوّناته الاقتصادية والاجتماعية بحيث بدا المطلب الواحد المركز في ’التنمية والتشغيل’ تلخيصًا أمينا للحاجة المجتمعية المحلية الشاملة، إذ اختزل بنية تظلمية-مطلبية مترسّخة في الذهنية العامة ومستدامة في الذاكرة، ممتدة أفقيا ومترامية الجذور في أعماق فئات وشرائح اجتماعية مختلفة.

أُنمُوذَجٌ مُلْهِمٌ

خلال خوض المعركة، كانت الحركة تستمد قوتها مما توصلت إليه من التعبير الأمين عن الحاجة الاجتماعية المحلية، ومن تجذرها في بنية اجتماعية حاضنة مساندة، ومن قدرة المعتصمين على الضغط من خلال إيقاف ضخ البترول بما يضر بمصالح أصحاب الشركات الاستخراجية. ودامت المفاوضات أكثر من شهر مع وفد رسمي غير حكومي ولكنّه مفوّضٌ، حلّ من العَاصمة وأقام على عين المكان حتى انتهاء المَهَمَّة.

وأخيرا، في 6 نوفمبر/تشرين الثاني 2020، تم إبرام اتفاقية مع الحكومة تقضي بتقديم منح متعددة للمنطقة والتوظيف في شركات النفط والبستنة، فرُفع الاعتصام واستأنف الإنتاج.

أظهرت الوقائع اللاحقة لنجاح حركة الكامور أنها أنموذج حركة اجتماعية جديدة مُلهمٌ وأن ما تلاها من أيَّامٍ مقبل على محاولات عدّة للنسج على منواله في غير ما جهة في البلاد. كان الدرس الظاهر من حركة الكامور يقول: “إذا ما توفقت في ضغط مُوجِعٍ على الحكومة فهي سترضح لك لا محالة”. عديدة هي صفحات فايسبوك التي عبّرت عن ذلك، مستعيدة بعض عناوين الجرائد اليومية أحيانا، عن طريق الغمز من خلال ’رفع شعار’ تم التعبير عنه على الغالب على صيغة “إِلِّي عَنْدُو فَانَا يْسَكِّرْهَا” (من كانت على مَقْرُبَةٍ مِنْهُ مَحَطَّةُ ضَخٍّ فَلْيُغْلِقْهَا). وفي الأسابيع القليلة اللاّحقة لحركة الكامور، جرت محاولات استنساخها بطريقتين: اتّباع أسلوب إيقاف الإنتاج في موقع ما، واتباع أسلوب التعبئة القصوى في مجال-مجتمع محليٍّ ما. ولكن محطات الضخ ليست متناثرة على قوارع الطرقات، وليست كل مواقع الإنتاج، كما يقال في الرَّطَانة السياسية والإعلامية الرسمية، متماثلة فيما تنتج وفي كيفيات إنتاجه.

ما كانت نتيجة محاولات الاستنساخ بالطريقة الأولى؟ كان التصرف الحكومي تجاه إيقاف شحن عبوات الغاز المستعمل في المنازل من محطة المركب الصناعي الكيمياوي بقابس التجاهل التام تقريبا. تركت السلطات المحلية والمركزية حبل التذمّر المواطني من افتقاد مادة حيوية يومية على غاربه. وكان امتداد الحركة زمنيا واستمرار ضغطها عن طريق إيقاف مثل هذا الإنتاج قاطعا لأواصر ممكنة الربط مع حاضنة شعبية لم يتم الاشتغال على تكوينها أصلا. في مثل هذه الحالات ما من تحصين شعبي ممكن للتحركات. على خلاف ذلك، كانت نقطة قوة حركة الكامور هي التوصّل إلى إحداث أقسى وَجَعٍ ممكن في بَدَنِ هيكل الإنتاج والرّبح الاستخراجييْن وما يتصل به من بَدَن هَيْكَل حماية الصناعة الاستخراجية الحكومي الإداري والسياسي من دون الإضرار المحسوس مباشرة بمجريات حياة الناس ومستلزماتها اليومية الدنيا.

ما كانت نتيجة محاولات الاستنساخ بالطريقة الثانية؟ لم تكن التحركات التي قامت بعد الكامور في القصرين وفي القيروان وفي باجة (وسط وشمال البلاد) مبنية بنفس الطريقة التي تيسّر رسوخها في المجال وفي الاجتماع المحليّيْن، ولا بنفس الكيفية التي تحقّق لها القُدُرات التفاوضيّة النّافذة. فعلى الرغم من القدرة التعبوية الحاشدة في باجة والقيروان مثلا، بدا الاقتصار على التجمّع ورفع المطالب والتذكير بتاريخيتها غير كاف، ولا كانت دعوة منظمات المجتمع المدني وحضور نواب البرلمان من الجهة وتجييش الاتحاد العام التونسي للشغل ضمانات للنجاح.

نحو تعاقد وطني جديد

ومن منظور أطوار الاحتجاجات الاجتماعية لأكثر الفئات تهميشا، كان أهم رهانات ما كان في الكامور أنه تجاوز مجرد إنجاح حركة اجتماعية إلى طرح أسئلة اجتماعية عميقة حول الثروة الوطنية. هاهنا، كان خصوم الحركة يرون خاصرة رخوة، اعتمدوها ليتحدثوا عن ظهور روح جهوية، بل وعن ذهنية قبلية-عشائرية. إن الرهان الذي طرحته حركة الكامور ذو أساس تاريخي-اجتماعي سحيق ومتين هو مشروعية المطالبة بإعادة ترتيب أولوية الأحقية بالتمتع بثمار الثروة الوطنية ما بين المستفيدين الشرعيين من أفراد المجتمعات المحلية والمستفيدين من أفراد المجتمع الكلي. إن عمق ما راهنت عليه حركة الكامور هو إنهاء الإدارة المركزية للثروة الوطنية بمنطق ’التوازنات الوطنية الشاملة’ ضمن ’المخططات التنموية الكبرى’ و’معادلات ميزانية الدولة العامة’ بما يحتمل حتى حرمان المجتمعات المحلية الكلّي من عائداتها. وكان الرهان هو التوفق في ترجمة مخصوصة لمبدأ المسؤولية الاجتماعية لا للمؤسّسة الاستخراجية فحسب بل وللدولة برمتها. وعلى ذلك، يمكن القول إنّ عمق المطلب الكاموري هو إعادة صياغة التعاقد الوطني العام حول كيفيات استغلال الثروات الوطنية في سياق سياسات عمومية تنموية تحقق الاستدامة والعمق التنموي الإنساني.

ينبني الطور الجديد الذي بلغته الحركات الاجتماعية في تونس ما بعد الثورة خلال حركة الكامور على أن منطق جريان الحركة الاجتماعية وترسخها التاريخي لا يستوجب أن يكون القائمون عليها في موقع السلطة حتى يقرروا السياسات. يمكن لهذه أن تستتب بدفع من خارج الهيكلة المعتادة لصنع القرار: من الأسفل وليس من قمة هرم القرار، بدفع من الحركة الاجتماعية وليس برسم من الحكومة، على قاعدة المطلب الاجتماعي وليس على قاعدة مقتضيات المخطط التنموي المُدَوْلَن، وبمفاعيل نقطة الضغط المحلية وليس بمفاعيل توجهات مركز القرار السياسي المركزي-العاصميّ، إلخ.

على اعتبار تمكن حركة الكامور من إخضاع السياسات العمومية الرسمية إلى القبول بسياسات بديلة، يمكن القول إن عمق المجادلة التاريخية التي طرحتها يمسّ بأسس التعاقد الوطني الذي بنته الدولة ما بعد الاستعمارية في تونس وأسست عليه نظام الشرعيات السياسية الحكومية والبرلمانية والحزبية على امتداد تاريخها، وهو نظام لا يزال يقاوم مَوَاتَهَ ونهايته التّاريخية المعلنة منذ 2010-2011. ولقد بينت سنوات العقد الماضي أن تلك النهاية قد لا تحدث في جرة قلم تاريخية مشهودة بل على وقع الانتصارات الجزئية التي تسجّلها الحركات الاجتماعية هنا وهناك، في سياق مرورها بمختلف أطوارها.

عرض مباشر : Orient XXI

Navigation