لا يوجد مؤسسة إسرائيلية واحدة، رسمية أو غير رسمية، إلا وتصعّد نشاطها من أجل تهويد القدس وتمزيق مجتمعها الفلسطيني. قوى المخابرات والشرطة والبلدية، ووزارات الداخلية والأمن وجهاز القضاء، هي جهات فاعلة مركزية في هذا العدوان. لكن الصورة أضخم من هذا بكثير: الجامعات ومراكز الأبحاث ومؤسسات التشغيل والجمعيات الأهلية والصناديق الاستثمارية ومكاتب التخطيط الحضري ورؤوس الأموال (إسرائيليون وفلسطينيون) والحركات الاستيطانيّة وخدمات الرفاه الاجتماعي وجهاز التعليم وغيرها الكثير مما يصعب حصره... كلّها تعمل بكثافة لإحكام السيطرة الصهيونية على المدينة.
الصورة الشاملة
لجان ومكاتب تخطيط حضري تُعيد رسم المدينة بحيث تعزل الأحياء الفلسطينية عن بعضها (بالمستوطنات والطرق والمتنزهات والمشاريع السياحية) وتمنعها من الاتصال بمركز المدينة التاريخي، بينما تسعى لربط المستوطنات ببعضها وبمركز المدينة (خط القطار الخفيف مثلاً)، وتُكثّف إصدار أوامر هدم البيوت، فتُبقي عشرات الآلاف تحت ضغوطات الغرامات المالية المنهِكة الكفيلة بتدمير العائلات اقتصادياً، أو تجبر الناس على أن يهدموا بيوتهم بأيديهم. وزارات صحة وبيئة وسلطات ضريبية تشن هجمات ممنهجة على التجّار لإذلالهم يومياً بالغرامات وإغلاق محلاتهم، وذلك بهدف ابتزازهم لبيع أملاكهم للمستوطنين أو لتسليم شبان مناضلين أو منع نشاط سياسي واجتماعي، وأغراض مخابراتية أخرى. صناديق استثمارية ومؤسسات تشغيل ودمج اقتصادي، بتنسيقٍ حثيث مع رؤوس أموالٍ محليين، تضخ عشرات ملايين الدولارات من أجل "دمج" الفلسطينيين بسوق العمل والاستهلاك الإسرائيلي، وتسعى لإقامة خدمات ومراكز شرائية على مستوى الأحياء، تُغني الناس عن التواصل مع مركز مدينتهم وسوقها. وزارة المعارف ومعها مؤسسات صهيونية تسعى لتصفية الطواقم التدريسيّة في القدس من المربيات والمربّين المناضلات والمناضلين، وتسعى لفرض المناهج الإسرائيلية على المدارس المقدسية، هذا في ظل معطيات متضاربة حول نسب تسرّب هائلة من مدارس المدينة، تتراوح بين 40 و60 في المئة من طلبة المدارس الإعدادية والثانوية. منظومة التكافل الاجتماعي في المدينة، التي كانت قائمة في فلك العمل الوطني والنضالي والديني في المدينة، استُهدفت عمداً، وحاولوا استبدالها بخدمات "رفاه اجتماعي" استعمارية، في مجتمعٍ يعيش 80 في المئة منه تحت خط الفقر (وهذا قبل كورونا!).
ومن جهةٍ أخرى محاولات الجامعات والجمعيات ومراكز الأبحاث الإسرائيلية خلق "نخب" سياسية محلية بديلة، تدّعي تمثيل الناس خدماتياً وتعمل من خلال القنوات الحكومية الصهيونية. هذا كلّه قبل الحديث عن الجمعيات الاستيطانية التي تصرف مليارات للاستيلاء على بيوت المقدسيين وطردهم، ليس في البلدة القديمة فقط إنما في سلوان والشيخ جرّاح وغيرهم، ودفع الناس للتركّز في الضواحي المعدمة المروّعة، ذات الكثافة السكانية الجنونية والظروف الخدماتية والسكنية والاجتماعية المزرية (في كفر عقب مثلاً، يسكن ما يقارب 80 ألف إنسان، بعد أن كانوا نحو 20 ألف في العام 2014 فقط!). علاوة على ذلك، هناك الإرهاب المخابراتي والأمني اليومي الذي يعاني منه أهل المدينة ومئات الاعتقالات التعسفية والمحاكمات شبه الصورية.
ضرب كل ما هو جامع
الهوس الصهيوني بتمزيق المجتمع المقدسي دوافعه معروفة. كتلة بشريّة فلسطينية (350 ألف) هائلة في المدينة على تماسٍ يومي مباشر مع الإسرائيليين، يصعب تهجيرها فيزيائياً من المدينة، ولا يُمكن السيطرة عليها وإخضاعها إلا بتفكيك صلاتها الاجتماعية وقمع جميع إمكانيات تنظّمها وتوحّدها وحراكها، وتشويهها لإخضاعها لمنظومة المواطنة الإسرائيلية. لهذا، شهدت القدس هوساً إسرائيلياً مَرضياً بتدمير كل محاولة تنظيم سياسي مهما كانت صغيرة، وإغلاق لكل مؤسسة أو مركز اهتم بالتثقيف الوطني أو النشاطات الجامعة. حتى العام 2019، أغلقت إسرائيل ما يقارب 90 مؤسسة فلسطينية في المدينة إغلاقاً تاماً، وقمعت ما لا يُحصى من النشاطات الاجتماعيّة والثقافيّة التي جمعت أهل المدينة، من فعاليّات للأطفال أو عروض مسرحيّة أو دوريّات كرة قدم أو حتّى مناسبات من أعراس أو بيوت عزاء. هذا كلّه بموازاة ملاحقة المناضلين وزجّهم في السجون أو اتّباع سياسة الإبعاد عن القدس لشهورٍ طويلة، ونشاط جمعيّات صهيونيّة من أجل تقديم شكاوى للصناديق الأوروبيّة والأمريكيّة المانحة، لمنع تشغيل أي ناشط سياسيّ في مؤسسات تتلقى دعماً من هذه الصناديق.
تتضاعف هذه الممارسات في بلدة القدس القديمة – المركز التاريخي للمدينة وأسواقها وحرم المسجد الأقصى الذي يشكّل قلب المدينة النابض. يحاولون تفريغ الأسواق، وتقسيم المسجد الأقصى مكانياً وجغرافياً، واعتداءات المستوطنين المتكررة وجولاتهم الاستفزازية في الحرم، وترهيب التجار في الحواري المحيطة بمداخل الحرم خاصةً، كما التواجد العسكري الكثيف فيه، وجعل المكوث فيه خطراً على الشبّان، وتشديد المراقبة والتفتيش على المصلّين، ومحاولة منع النشاطات الاجتماعية في الحرم (قبل أسابيع قليلة، منع الجنود دخول شاب إلى الحرم لأنّهم وجدوا في حقيبته "أنفاً أحمراً" اسفنجياً يُستخدم للمهرّجين في نشاطات الأطفال الترفيهية... إلى هذا الحد!).
باب العامود: محاولة قتل الأجمل!
مع بداية رمضان، بلغت إسرائيل ذروة جديدة في محاولاتها قمع أحد أهم معالم وصورة الحياة الاجتماعية المقدسية: إغلاق مدرّج باب العامود. ساحة ومدرّج باب العامود من أهم معالم القدس، حيّز عام مركزي يُعتبر المدخل الرئيسي للبلدة القديمة، والمرتبط بشوارع تجارية مركزية خارج البلدة القديمة (منطقة شارع صلاح الدين، وطريق نابلس التاريخيّ، ومنطقة باب الساهرة والشيخ جرّاح والمصرارة)، والقريب جداً من مراكز المواصلات الفلسطينية في القدس (كراج باصات رام الله وضواحي القدس وأحيائها الفلسطينية، وكراج آخر لباصات بيت لحم وقراها، ونقطة انطلاق باصات الخليل.) وفي شهر رمضان تحديداً، يتحوّل باب العامود إلى ساحة مهرجانٍ ليلي ساحرة، يجتمع آلاف المقدسيين على المدرجات بعد صلاة التراويح في المسجد الأقصى، وتدب الروح في الأسواق.
منذ سنوات، بدأت إسرائيل تكثّف الوجود العسكري في باب العامود وتغيّر شكل الساحة، بنت فيه نقاط عسكرية اسمنتية وحديدية يتمترس الجنود فيها للتفتيش والمراقبة والمضايقة في مركز الساحة وفي محيطها، وبدأت تنتهج سياسة مضايقات للزوار وتهديدات، بل ووقعت في المكان عدّة إعدامات ميدانية. أما عشيّة رمضان هذا العام، فقرّرت السلطات الإسرائيلية إغلاق المدرّجات بحواجز حديدية لتمنع الناس من التجمّع فيها منعاً باتاً. عملياً، حاولت إسرائيل أن تقتل أجمل حدثٍ سنوي يجمع المقدسيين ويربطهم ببعضهم البعض، من جميع العائلات والأحياء، وزوّار المدينة المقدسة من جميع أنحاء فلسطين. ومن الصعب فعلاً وصف حُب المقدسيّين والفلسطينيّين عموماً لهذه المناسبة وأجوائها الاحتفالية التي لطالما فرشت بساط فرحٍ فوق الكارثة التي نعيشها.
موجة تمرّد جديدة
في هذا الظرف الاجتماعي المروّع، ومن فظاظة التعجرف الإسرائيلي في القمع، ومن محاولة سرقة أصغر معالم الفرح التي تبقّت لنا، ينشأ جيل آخر تحت ظل الكارثة. كل فلسطيني انفتحت عيونه للحياة على جريمة إسرائيلية ما. واليوم هناك صِبية فُتحت عيونهم على جريمة إحراق الطفل محمد أبو خضير، وهؤلاء يرون حجم الإذلال والقهر الذي تحاول إسرائيل أن تفرضه لتكسر أرواحنا وكل ما هو حيّ فينا، وتحوّلنا مسوخ نغذّي اقتصاد الاستعمار ومراكزه التجارية، ونتآكل تحت وطأة الفقر والجريمة والتخلّف والتجهيل، وفقدان صلتنا الفكرية والثقافية بتاريخٍ وعمرانٍ، واستمرارية تاريخٍ اجتماعي ثري، وانهيار قيم وأخلاق مناضلة ساعية للعدل بين الناس وللحرية والتضامن الاجتماعي والإرادة السياسية.
استطاعت إسرائيل أن تقمع التنظيم السياسي إلى أبعد حدودٍ ممكنة، وأن تقمع العمل الثقافي والاجتماعي الوطني إلى حدٍ بعيد، لكنها فشلت وستفشل في خلق المسخ المقموع التام. بدأت هذه الهبّة في "تيكتوك" - وسيلة إعلامٍ اجتماعية فيها جيل "التحديات"-، عبرها تحوّل "ضرب المستوطنين" هناك إلى مزحة من قبيل برامج الكاميرا الخفيّة. ولكن بسرعة كبيرة استعاد الخطاب الوطني السياسي مكانته اللازمة. وما بدأ كحركة طفولية مشاكسة غير مسيّسة - نابعة من قهرٍ وكراهية طبيعية لمستوطنين لا يوفّرون أي حقارة لإذلال الناس - تحوّل بسرعةٍ شديدة الى مظاهرات سياسية حاشدة تشتبك مع الجيش الإسرائيلي، وتهاجم وزارة القضاء ومحكمة الظلم في شارع صلاح الدين وتحاول إحراقها.
لكن الأمل والحماس الذي تبعثه بنا هذه الهبّة الشعبية، وغيرها من الهبّات، يجب ألّا يشتت رؤية الصورة الشاملة والعميقة الخطيرة التي تعيشها القدس. هذه المدينة تعيش أكثف وأسرع عدوان استعماري شهدته فلسطين، وأهلها متروكون تماماً دون أي دعمٍ أو مساندة أو رؤية مضادّة للمشروع الصهيوني. كل جهةٍ تسعى لنهضة وطنية في المدينة تُقمع، المساندة الهامة التي حظيت بها المدينة من فلسطينيي الداخل ضُرِبَت مع حظر الحركة الإسلامية ومشروع قوافل الأقصى واستهداف المرابطين عموماً. أما السلطة الفلسطينيّة... فلا يُمكن وصفها إلا بكلمات رئيسها الخَرِف ذاتها.
المشروع الصهيوني في القدس مهول، وينخر أعمق مما نرى وأوسع مما نتخيّل. التصدي له يحتاج إلى جديّة وطاقة وموارد، وإرادة سياسية قبل كل شيء. دعم هذه الهبّة ضروري، والسعي لاتساعها وامتدادها، طبعاً. إنما المطلوب أيضاً قراءة الهبّات السابقة وفهم الإيجابي والمحدود فيها، وقراءة الرد الإسرائيلي عليها ومحاولة توقّعه ومواجهته. وقراءة وفهم صورة القدس... وهي صورة مرعبة دون أدنى شك.