مهاجرون يفترشون جانب الطريق انتظارا لعمل بعد انتشار جائحة كوفيد-19، مصراتة، ليبيا، 2 مايو 2020. رويترز، أيمن الساحلي.
كل يوم جديد يحمل في طياته أخبارًا عن تزايد أعداد المصابين بفيروس كوفيد-19 ومع ازدياد عدد المصابين ترتفع أعداد الوفيات، وفي الشهور الأخيرة تخلت العديد من البلدان عن إجراءات الحجر الصحي الشامل التي اتخذتها في بداية أزمة الجائحة؛ بسبب ما ألحقه ذلك من تأثير على الاقتصاد، الذي عرف انكماشًا غير مسبوق مسببًا أزمة اقتصادية عالمية يفوق تأثيرها، حسب الخبراء، تلك التي حدثت سنة 2008، ورافقت الأزمة وتداعياتها الصحية والاجتماعية أطروحات ملحة حول ضرورة عودة الدولة الراعية أمام عجز الدول المتقدمة عن توفير العناية الصحية الأساسية لمواطنيها.
الدول المتقدمة، المعروفة باقتصاداتها المتطورة، ومؤسساتها القوية أصبحت تخشى الدخول في أزمة اقتصادية غير مسبوقة في تاريخها، بروكنج، [1] قد تكون مصحوبة بهزات اجتماعية تؤثر في ديمقراطياتها المتجذرة، وتدفع في اتجاه مزيد من الموجات الشعبوية والمتطرفة. في المقابل فإن بلدان شمال أفريقيا والشرق الأوسط، التي تمثل إحدى مناطق التوتر في العالم، من حيث النزاعات المسلحة والانتفاضات الاجتماعية والمخاطر السياسية والنظم السلطوية، إضافة إلى اقتصاداتها الهشة وديونها المتراكمة، تواجه مستقبلًا مفتوحًا على كل الاحتمالات، بل أن حاضرها يشي بتغيرات مهمة بعد أن كشفت أزمة كوفيد-19 عن مدى هشاشة نظمها الصحية والاقتصادية والاجتماعية، إضافة إلى ضعف مردودها الاقتصادي.
الوضع الاقتصادي الهش
رغم أنه يعد من الصعب حاليًا معرفة عدد الإصابات والوفيات الناتجة عن فيروس كوفيد-19 بدقة، خاصةً في مناطق النزاعات والحروب الأهلية في المنطقة، فإنه يمكن القول أن منطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط لم تعرف تلك الأعداد الكبيرة من ضحايا الوباء التي عرفتها الولايات المتحدة وأوروبا؛ ولكن على الرغم من ذلك فإن الاعتقاد الراسخ لدى العديد من الخبراء –ممن لديهم معرفة جيّدة بالمنطقة– أن المنطقة ستواجه أوضاعًا صعبة؛ نظرًا للطبيعة الاقتصادية لهذه الدول وهشاشتها وعدم قدرتها على مجابهة الأزمات.
يتوقع صندوق النقد الدولي أن تشهد المنطقة تراجعًا لم تعرفه منذ خمسين عامًا؛ نتيجة لضعف اقتصادات هذه البلدان، وتراجع أسعار النفط التي فقدت حولي ثلثي قيمتها، مؤكدًا أن المنطقة «تواجه أزمة لا مثيل لها وصدمة مزدوجة أثرت على اقتصادها خلال إجراءات الحجر الصحي». [2]
وستكون البطالة إحدى أهم مظاهر الأزمة الاقتصادية/الاجتماعية في المنطقة، حيث توقعت منظمة التعاون والتنمية أن تتسبب الجائحة في موجتيها الأولى والثانية في ارتفاع عدد العاطلين عن العمل إلى مستويات تفوق مثيلتها التي حدثت بعد الأزمة المالية في 2008، لتصل في أواخر 2020 إلى اكثر من أحد عشرة بالمائة، أي بزيادة تفوق الخمسين بالمائة عما كانت عليه في ديسمبر 2019 (5.2 بالمائة) [3] ما ينذر بأن الوضع في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وخاصةً في البلدان العربية سيكون أسوأ بكثير، فبالإضافة إلى الصدمات المالية الخانقة، فإن انهيار أسعار النفط سيؤدي إلى تقلص ميزانيات الدول التي تعتمد بالأساس على موارد الطاقة [4] وحسب تقرير جامعة الدول العربية الصادر في مايو 2020، فإن هذه الدول ستخسر حوالي مليون و700 ألف وظيفة، كما ستدفع الجائحة بحوالي ثمانية ملايين شخص من الطبقة المتوسطة إلى دائرة الفقر، كما سينخفض الناتج المحلي لهذه الدول بنسبة خمسة وأربعين بالمائة، وسيكون الشباب والنساء أكبر المتضررين من الأوضاع التي ستفرزها الجائحة [5]
اضمحلال دولة الرفاه؟
أشارت دراسات متعددة إلى أن أحد أسباب فشل دول المنطقة في مواجهةكوفيد-19 هو اضمحلال دولة الرفاه التي سادت في ستينيات القرن الماضي في العديد من دول المنطقة، واستمرت في دول الخليج خلال الطفرة النفطية، ثم أخذت في التقلّص مع تراجع أسعار النفط والإنفاق العسكري. في رأيي الشخصي، فإن دولة الرفاه الاجتماعي –التي ضمر دورها منذ أكثر من عقدين في الدول الرأسمالية– جاءت في فترة تضاعف فيها الإنتاج، وتطورت خلالها الصناعة، وتعاظم دور النقابات المهنية في زمن الحرب الباردة وصعود الأفكار الاشتراكية، فكان ذلك العقد الاجتماعي الذي تنشئ الدولة بموجبه المشاريع الكبرى وتسيطر على الاقتصاد وتلتزم بالإنفاق على الصحة والتعليم والضمان الاجتماعي، قبلما تسيطر العولمة بأفكارها الليبرالية التي تحد من دور الدولة وتطلق أيدي الشركات الكبرى والعابرة للقارات.
في المقابل، في غالبية بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فإن السلطة، مدنية كانت أم عسكرية، هيمنت على كل دواليب الدولة وتبنت التخطيط في الاقتصاد لعقود، لكن في واقع عدم استقرارها والقمع الذي كانت تفرضه على المجتمع وغياب المحاسبة والحوكمة الرشيدة، فضلًا عن استشراء الفساد في القطاع العمومي ونخره حتى الإفلاس أحيانًا؛ جعل السلطة تستنجد بالمؤسسات المالية العالمية للتداين، والتي بدورها أملت شروطها بضرورة توخي سياسات ليبرالية، والتخلي تدريجيًا عن القطاعات العمومية ودعت إلى التقشف في الإنفاق العام، كشرط لتمرير تلك القروض والمساعدات.
لذلك أعتقد أن دولة الرفاه بمفهومها الشامل تستلزم جملة من الإجراءات التي لا يمكن فصلها، كما أنها لا تؤمّن الصحة والتعليم والضمان الاجتماعي فقط، بل هي كما حددها عالم الاجتماع البريطاني، توماس مارشل، دولة «المواطنة الاقتصادية الاجتماعية» التي من مهامها توفير «حق معلوم في الموارد والثروات المادية إلى جانب الحق في الممارسة السياسية» لكل مواطن، عبر العملية الديمقراطية الكاملة، من انتخابات حرة وحرية رأي وتفكير وتنظيم الخ.. وهي حزمة من الإجراءات أسماها «المواطنة الكاملة».
في المنطقة العربية، يوجد تلازم بين التسلط السياسي والسيطرة على كل موارد الاقتصاد، ما يؤدي حتمًا إلى الرقابة المشددة من السلطة الحاكمة على الثروة وإدارتها بالقمع وغياب الشفافية وانتشار الفساد وردع المبادرات الحرة، حتى ما اصطلح على تسميته بالعقد الاجتماعي الذي يربط بين السلطة ومواطنيها، صار عادةً ما يُبنى على المقايضة، مقايضة (بعض) الحقوق الاجتماعية مقابل الولاء والطاعة والصمت، بدلًا من أن يؤسس على مبادئ سلطة القانون واحترام الحقوق والدفاع عن الحريات العامة والخاصة.
الدول غير النفطية، التي قامت بما سمّي إصلاحات اقتصادية هيكلية تهدف إلى الانخراط في الاقتصاد العالمي وتشجيع الاستثمار والخصخصة والتقليص من دور الدولة منذ سبعينيات القرن الماضي، فشلت في تحقيق النمو المطلوب لعدة أسباب، من ضمنها أنها لم ترفق «إصلاحاتها الاقتصادية» بإصلاحات سياسية، تضمن المحاسبة والرقابة المستقلة على المال العام، وأيضًا لأن الخصخصة قد اقتصرت على الحلقة الضيّقة القريبة من السلطة، ما فاقم بدروه من مظاهر تفشي الفساد وضاعف من الغضب الشعبي عبر انتفاضات متكررة، وصلت ذروتها في أواخر 2010 وبدايات 2011.
إذن تأتي الجائحة في ظل ظروف اقتصادية واجتماعية صعبة للغاية، تتسم بنمو اقتصادي بطئ، وبتنمية منعدمة وانعدام التوازن بين جهات البلد الواحد، وحركات احتجاجية مستمرة في عديد البلدان وحروب أهلية وطائفية انطلقت منذ 2011، علمت عدة أطراف دولية وإقليمية على تأجيجها.
النساء في المنطقة وهشاشة الأوضاع الاقتصادية
أوردت الأمم المتحدة في أواخر أبريل 2020 تقريرًا حول أوضاع النساء في العالم جراء إجراءات الحجر الصحي، أطلق التقرير ما يمكن اعتباره صيحة فزع حول ما تتعرض له النساء من عنف أسري تفاقم بشكل كبير نتيجة الوجود الدائم لشركائهن في المنزل، حيث تضاعف عدد المبلغات عن تعنيفهن في المملكة المتحدة، على سبيل المثال، 700 بالمائة، إضافةً إلى العنف الاقتصادي الذي طال العاملات في القطاعات الهشة، مثل العمل في المطاعم والنزل والقطاعات السياحية عمومًا.
في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث تواجه النساء تحديات متعددة، ترتبط في أغلبها بتقاليد المجتمع الذكوري ونظرته لدور المرأة في العائلة والمجتمع، بالإضافة إلى البطالة المرتفعة وهشاشة الشغل، خاصةً في القطاع الخاص، فضلًا عن العنف بمختلف أشكاله، خاصةً العنف المنزلي، الذي تضاعف مع أزمة كوفيد-19 وخضوع العائلة للحجر الصحي وغلق المدارس ورياض الأطفال والحدائق العامة، ما يعني بدوره المزيد من الضغوطات المنزلية.
حسب بيانات البنك الدولي لسنة 2018، فإن البطالة والأمية يعدان من أهم التحديات التي تواجه نساء المنطقة، وخاصةً في الدول العربية؛ فالنساء يمثلن 49.7 بالمائة من مجموع السكان، وترتفع نسبة البطالة النسوية إلى حوالي النصف، [6] بينما لا يتجاوز المتوسط العالمي للبطالة النسوية اثنا عشر بالمائة، ويمكن تفسير ارتفاع تلك النسبة في الدول العربية نظرًا لارتفاع نسبة الأمية لدى المرأة العربية، مثلًا، حيث تصل إلى ما يقارب الخمسين بالمائة، خاصةً في بلدان مثل اليمن أو بعض البلدان الأخرى التي أنهكتها الحروب الأهلية والصراعات العرقية [7] والتي ساهمت بدورها في انتشار العنف الجندري والجنسي وزادت من نسب الترمل، ففي اليمن على سبيل المثال، كان أربعة ونصف (4.5) مليون طفل وامرأة حامل أو مرضع يعانون من سوء التغذية الحاد خلال سنة 2019، [8] وهي النسبة التي فاقمتها أزمة الجائحة. ومع ارتفاع نسب الفقر زادت معدلات الزواج المبكر، فزواج القاصرات بلغت نسبته في اليمن قبل الحرب الأهلية خمسين بالمائة، وارتفعت خلالها لتصل إلى خمسة وسبعين بالمائة [9]
وفي واقع جائحة كوفيد-19 ظلت المرأة معرضة أكثر من غيرها لمخاطر الفيروس بحكم أن النساء يمثلن في أغلب بلدان المنطقة نسبة كبيرة من طاقم التمريض، [10] وهو ما يعرضهن إلى ضغط كبير وخطر أكبر، إضافةً إلى تحمل الأعباء المنزلية خلال فترات الحجر الصحي. لكن تبقى البطالة بالنسبة للمرأة أحد أهم التحديات خلال الأزمة، فالنساء هنّ الأكثر استهدافًا بالطرد من العمل خلال أزمة الجائحة، وقد يصل عدد الوظائف المفقودة للنساء في العالم العربي إلى حدود 700 ألف وظيفة –بحسب لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب أسيا– ويعد هذا طبيعيًا لأنهن يعملن عادةً في القطاعات الاقتصادية غير المنظمة التي تفتقد إلى الضمانات، حيث لا تتجاوز نسبة مشاركتهن في العمل النظامي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا العشرين بالمائة.
القضية الأخطر تكمن في أن «إجراءات الحجر الصحي المقرونة بالانكماش الاقتصادي ضاعفت من تعرّض المرأة للعنف المنزلي». [11] فعلى سبيل المثال، فإن تونس، البلد الذي صادق برلمانه في صيف 2017 على قانون مناهض للعنف ضد المرأة، قد شهد تصاعدًا للعنف الأسري غير مسبوق منذ صدور الأمر الحكومي الخاص بإجراءات الحجر الصحي، حيث وصلت حالات الإبلاغ منذ بداية الحجر الصحي والى حدود أبريل 2020، 7000 حالة، حسب وزارة المرأة والطفولة وكبار السن، أي ما يعادل خمسة أضعاف نسبة العنف خلال الفترة نفسها من سنة 2019. ومن المثير للدهشة أن ارتفاع نسبة العنف الموجه ضد النساء قد تزامن مع قرار المجلس الأعلى للقضاء بتأجيل كافة جلسات الاستماع؛ ما منع وأعاق المرأة المعنفة من التشكي، وفاقم من التأثير البدني والنفسي، وشكل تهديدًا للحياة الأسرية.
معاناة المهاجرين
ولم تزد أزمة الجائحة من معاناة النساء فقط، بل أنها قد عقّدت من أوضاع المهاجرين في منطقة تعرف أزمات لا حدود لها، اقتصادية واجتماعية وسياسية وهجرة غير منظمة ولاجئين بالملايين، لم تنجح الإجراءات الأوروبية الحازمة وسياسات الترحيل القسري في منعهم، تمامًا كما لم ترهبهم مخاطر ركوب البحر في قوارب الموت.
أوضاع لخصها مكتب الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة والمخدرات حين قال في منتصف مايو الماضي أن «القيود المفروضة على السفر والتنقل –بسبب جائحة كورونا– لا تمنع هروب الأشخاص من النزاعات وانتهاكات حقوق الإنسان والعنف والظروف المعيشية الخطيرة، بينما من المرجح أن تؤدي العواقب الاقتصادية للوباء إلى زيادة تهريب المهاجرين والاتجار بالبشر». وفي سياق العقدين الأخيرين فإن السياسات الأوروبية الأمنية الصارمة على الحدود البحرية والبرية لم تخفض من نسبة المهاجرين، بل زادت من معاناتهم، كما دفعت المهربين للبحث عن طرق بحرية وبرية أخرى أكثر تكلفة وأشد خطورة [12]
تونس، بحكم موقعها وأوضاعها الاجتماعية، كانت دائمًا نقطة عبور للمهاجرين الأفارقة من جنوب الصحراء ومصر وليبيا، وهي كذلك نقطة انطلاق للشباب التونسي الذي أنهكته سنوات الانتظار والأمل أن تغيّر الثورة التونسية من أوضاعه الاجتماعية، حتى فقد الأمل في مستقبل أفضل.
في واقع أزمة كورونا تكثفت الهجرة غير النظامية بشكل غير مسبوق، ما دفع بالسلطات الإيطالية للضغط بقوة على الحكومة التونسية من أجل وقف النزيف، وكانت المفوضية السامية لشئون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة قد أعلنت في السادس والعشرين من يوليو 2020 أن الهجرة غير النظامية من جنوب المتوسط قد بلغت حتى يوليو 2020 أكثر من 11800 شخص أي أكثر بثلاث مرات العدد سنة 2019، نصفهم من التونسيين [13]
في دول شمال أفريقيا لا يقل وضع المهاجرين واللاجئين بؤسًا، في غياب دولة مركزية أحيانًا، مثلما هو الحال في ليبيا، أو غياب قوانين تحمي أولئك الذين دفعتهم الظروف السياسية والاقتصادية والمناخية إلى مغادرة بلدانهم طلبًا للحماية أو للشغل، مثلما هو الحال في عديد بلدان المنطقة.
في ليبيا عقّدت أزمة كوفيد-19 من أوضاع آلاف المهاجرين وطالبي اللجوء الذين يقيمون في مراكز احتجاز، في ظل أوضاع صعبة حيث تغيب السلطة المركزية في بعض المراكز، فتتصرف المليشيات دونما أدنى رقابة [14]
وفي تونس يعيش عشرات المحتجزين داخل مركز إيواء «الوردية»، بالعاصمة التونسية، في ظروف سيئة، ضاعف من قسوتها الأزمة الصحية ومعدلات الاكتظاظ التي تضاعف من خطورة الإصابة بالعدوى، في بلد حرص على التأكيد على التباعد الاجتماعي والنظافة، وتطبيق كل الإجراءات الوقائية الصارمة التي تمنع العدوى؛ وهو ما دفع بمنظمات حقوقية تونسية ودولية للمطالبة بإطلاق سراح كل المحتجزين، منتقدة تراخي السلطة في العناية بهم، واصفةً ذلك التراخي بأنه يجعل «من المستحيل تنفيذ إجراءات وقائية لتجنب انتشار المرض» كما جاء على لسان منظمة العفو الدولية [15]
أكثر الأطفال احتياجًا في العالم يعيشون في المنطقة
يستهدف وباء الكوفيد-19 كل الفئات الاجتماعية لكن تأثيره يكون أعمق ضمن الفئات الاجتماعية الأكثر هشاشة، ولعل الأطفال، في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، الذين يعانون في أغلبهم من العقبات في طريقة عيشهم ودراستهم نتيجة الفقر والحروب الأهلية قد تضرروا أكثر بمفعول الحجر الصحي وغلق المدارس، فتنامي الدراسة عن بعد التي حتمتها إجراءات الحجر الصحي لم يستفد منها إلا أولئك الذين تتوفر لهم الإمكانيات (جهاز حاسوب، إنترنت، فضاء مريح) إضافة إلى أنه –بحسب اليونيسيف– فإن خمس وعشرين مليون طفل محتاج يعيشون في المنطقة، ومن ضمنهم «اللاجئين والنازحين الذين شُرّدوا من بيوتهم» وهم بذلك محرومون من الحق في التعليم [16]
على سبيل المثال أشارت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إلى استبيان قامت به المنظمات التابعة للأمم المتحدة في الأردن في أوائل شهر أبريل 2020، يفيد بأن واحد وأربعين بالمائة من العائلات أكدت أن أطفالها تمكنوا من الانتفاع من «درسك» وهو الموقع الذي أطلقته وزارة التربية لمواصلة التعليم العمومي.
وحتى دون اعتبار أزمة كوفيد-19 فإن التعليم في المنطقة يشكو من هنّات مرعبة تنبئ بمستقبل أكثر خطورة، إذ تشير التقارير إلى أن طفل من بين خمسة أطفال لا يتلقى التعليم أساسًا، كما أن ثلاثة وستين بالمائة من الأطفال في سن العاشرة، لا يستطيعون قراءة وكتابة نص بسيط، ناهيك عن حرمان الحروب والأزمات الداخلية لثلاثة ملايين طفل من الدراسة، حيث دمرت الحرب 8850 مؤسسة تعليمية خلال السنوات الأخيرة في سوريا والعراق وليبيا واليمن [17] إذن أزمة كوفيد-19 لم تزد الوضع التعليمي إلا تأزمًا.
عندما تغيب العناية الصحية، يحضر القمع
يعد جليًا مدى سوء الوضع الصحي في ظروف حرجة مثل ما سبق ذكره، وأن جائحة كوفيد-19 قد ضاعفت من معاناة المواطنين، صحيًا واقتصاديًا واجتماعيًا. ولم تجد غالبية الأنظمة في هذه البلدان من طريقة إلا تطبيق إجراءات الحجر الصحي، أحيانًا بصرامة مبالغة، فإضافة إلى غلق المدارس والمعاهد ورياض الأطفال ومنع التجمعات وإقرار حالات الطوارئ ومنع التجوال، أرفقت إجراءات الحجر الصحي بعقوبات مشددة في حالات عدم التقيّد، وهي عقوبات تتراوح بين غرامات مالية مجحفة أو عقوبات بالسجن والحبس، مثلما حدث في السعودية والأردن والإمارات العربية المتحدة [18]
في المغرب، وحتى أواخر أبريل 2020، قُدم للمحاكمة من أجل «انتهاك الحجر الصحي»، واحد وأربعون ألف شخص، وقالت مفوضة الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، ميشال باشليية، أن تطبيق إجراءات الحجر الصحي في المملكة المغربية «مثيرة جدًا للقلق» وأن الشرطة تستخدم أساليبًا قاسية من أجل فرض تطبيق ذلك [19] بينما مارست أجهزة الأمن في إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة مراقبة دائمة على الأشخاص عن طريق هواتفهم الجوالة دون استصدار إذن من المحكمة، أضف إلى أن تطبيقات متطورة استعملت للتجسس على الفلسطينيين دون أي سند قانوني [20]
خطر تأبيد المؤقت
في كتابه «المراقبة والعقاب»، قال الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو أن السلطة تستغل الأوبئة للتواجد في كل مكان «حضورًا ورؤية» وتحصر الفرد ضمن مكان ثابت لتتمكن من مراقبته. وهو ما يعد واضحًا واستثنائيًا فيما عشناه خلال الأشهر الأولى من أزمة كورونا،ـ حيث سارعت الأنظمة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لاستغلال الإجراءات المضيقة على الحريات، وتسليط العقاب على كل المخالفين، وفي المقابل سرعة استجابة الشعوب لتضييقات مثل منع التجوال وإعلان حالة الطوارئ. على الرغم من أن تلك الإجراءات تلتقي فيها أغلب بلدان العالم، إلا أن غياب السلطة المضادة، والمؤسسات المستقلة، والتضييق على حرية الإعلام وملاحقة النشطاء، كلها تشي بأن ما اعتبر مؤقتًا قد يتحول إلى دائم، وأن الحد من الحريات سيستمر إلى ما بعد كورونا، ما لم تنهض الشعوب مرة أخرى للمطالبة بحقوقها.
بين المأمول والموجود
كان من المأمول أن تشكّل الجائحة والرجة الكبيرة التي نتجت عن سرعة انتشارها وارتداداتها الخطيرة فرصة لحكومات المنطقة لإعادة النظر في كثير من سياساتها، وفي مقدمتها سياسات الرعاية الصحية، بعد أن ثبت أن القطاع يشكو أزمة هيكلية عميقة في عديد البلدان، فضلًا عن قضية المياه والكهرباء في عديد المناطق النائية والمحرومة، اختلال التوازن بين مناطق البلد الواحد، غياب السكن اللائق في الأحياء الشعبية المهمشة التي تحيط بالمدن، التي تشكو من غياب الحد الأدنى الصحي. كما مثلت الجائحة فرصة فريدة لتقف النخب الحاكمة على حجم الدمار الذي خلفته سياسات التسلط والقمع، من هشاشة القطاع العام الذي لم يصمد في مواجهة العدوى، ومعدلات الإفقار المتزايد التي طالت الطبقات الوسطى، وضعف القطاع الخاص والمشاريع الصغرى التي لم تستطع الصمود أمام إجراءات الحجر الصحي.
على سبيل المثال، أثبت القطاع الصحي في بلدان المغرب الثلاث: تونس والجزائر والمغرب محدوديته من خلال النقص الفادح في التجهيزات والإطار الطبي والتوزيع الجغرافي للرعاية الصحية، وهو الأمر الناتج عن إهمال القطاع من خلال تخصيص ميزانية متواضعة، حيث لا تمثل ميزانية وزارة الصحة سنة 2019 إلا خمسة بالمائة من الميزانية العامة في المغرب وسبعة بالمائة في تونس، وهي أقل بكثير مما توصي به المنظمة العالمية للصحة (اثني عشرة بالمائة)، وعلى الرغم من أن تونس نجحت –نسبيًا– في تطويق الموجة الأولى للوباء، إلا أن حكوماتها المتعاقبة لم تنجح في تغيير السياسة الصحية غير المتكافئة بين الجهات الساحلية والجهات الداخلية المحرومة، فعلى سبيل المثال لا يوجد في ولاية (محافظة) تطاوين، أو القصرين طب انعاش، فالحكومات المتعاقبة «منذ الثورة لم تحدث أي قطيعة مع السياسات الصحية المنحازة للقطاع الخاص ولم تتخذ أي إجراء ذو أهمية لرأب صدع التفاوت المجالي في الحق في الصحة».
تقرير «مؤشر الصحة العالمي» الأخير يشخص الوضع الصحي بدقة وينبئ بمزيد التعقيدات، حيث يصنف منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بأنها ثاني أدنى مرتبة في العالم في العناية الصحية، وهي الأخيرة من ناحية البحوث في علم الأوبئة والتأهب للطوارئ والتخطيط للاستجابة، ويؤكد التقرير أن «انتشار جائحة كوفيد-19 في المنطقة فاقم من أوجه الضعف الموجودة، ومن المخاطر القائمة في واقع اقتصاديات هشة تُدار بشكل سيء، وأنظمة طبية تعاني من نقص في الموارد الأساسية، وبنية تحتية صحية إما محطمة أو مفقودة». [21]
صحيح أن الإجراءات الصارمة –والقاسية أحيانًا– التي اتخذتها الحكومات من حجر صحي إجباري، ومنع التنقل، وغلق المحافظات والمدارس ودور العبادة، ومنع التجمع والسفر، وفرض حالات الطوارئ ومنع التجوال قد أتت أكلها في العديد من بلدان المنطقة من حيث محدودية انتشار العدوى، رغم ما أثارته من تحفظات لدى المنظمات الحقوقية، إلا أن هذه الإجراءات أدت، في الوقت ذاته، إلى مزيد تأزيم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، حيث من المنتظر أن يشهد النمو الضعيف في المنطقة انكماشًا غير مسبوق، إذ حسب التقديرات الأولية للبنك وصندوق النقد الدوليين، فإن النسبة ستتراوح بين –4.2 و4.7 بالمائة سلبي في السنة الحالية، أي سنة 2020، كما أن تفاقم مظاهر الفقر واحتداد التفاوت الاجتماعي وانتشار البطالة سيحتم مزيدًا من الاقتراض من المؤسسات المالية الدولية «مما سيحتم إجبارية ما تمليه هذه المؤسسات من إصلاحات» [22] قد تكون مؤلمة أحيانًا [23]
ومع هشاشة النظام الصحي وانعدام الشفافية في التعامل مع الجائحة وعدد المصابين والموتى في عديد بلدان الشرق الأوسط، تتدخل السلطة لمنع ترويج حقيقة تفشيها، فبينما تصرح وزيرة الصحة المصرية أن النظام الصحي في بلادها يعتبر «ضمن الأفضل في العالم» أشارت كثير من الأنباء المتطابقة إلى إيقاف عدد من الأطباء بتهم «نشر أكاذيب والانتماء إلى تنظيم إرهابي وإساءة استعمال وسائل التواصل الاجتماعي»؛ وذلك بسبب انتقادهم لأداء الحكومة والنقص في المعدات الطبية وعدم حماية الإطار الطبي، واتهمت العديد من التقارير النظام المصري بالتستر على أعداد المصابين [24] ويختصر تقرير كارينجي رد الحكومة المصرية على كوفيد -19 بالقول «لقد كان مزيجًا من القمع والدعاية والتضليل». [25]
الأنظمة في المنطقة تتنفس الصعداء وتضاعف من التضييق
سنة 2019، كانت سنة الانتفاضات العربية الثانية في عديد بلدان المنطقة، فبعد ثورة السودان وإنهاء حكم البشير، ظلت الشعوب في بلدان مثل الجزائر والعراق ولبنان تخرج في مظاهرات –شبه يومية– منددة بالقمع وسوء استخدام السلطة والفساد المالي وتنامي البطالة والفقر. وهو ما يبدو استعادة لعام 2011، رغم ما آل إليه الربيع العربي في نسخته الأولى، وارتداداته من حروب أهلية وعودة الاستبداد في بعض البلدان، وإخفاق اقتصادي واجتماعي في بلدان أخرى، ما يعني أن شعوب المنطقة لا تزال تأمل في مستقبل أفضل تكون بداياته نهاية الأنظمة الموجودة.
في الجزائر، أوقف كوفيد-19 مسير الحراك الذي تواصل كل أسبوع منذ 22 فبراير 2019 وإلى منتصف مارس 2020، واغتنمت السلطة الوضع للعودة بقوة إلى مسار القمع والتضييق على الحريات العامة وإيقاف ومحاكمة النشطاء، وتماشيًا مع مبدأ استغلال الأزمة الصحية لعودة السيطرة الأمنية والقضائية، فقد أصدر الرئيس عبد المجيد تبون قانونًا يجرّم نشر «الأخبار الزائفة» ويستهدف خاصةً وسائل الإعلام المستقلة ومنصات التواصل الاجتماعي، ويمكن أن تصل عقوبة النشر إلى 3900 دولار [26]
أوقفت أزمة كوفيد -19 والحجر الصحي كل التحركات، وفي أي نظام ديمقراطي حقًا أو يسعى إلى أن يكون كذلك، تكون الأزمة وما خلفته من تداعيات فرصة لتحقيق التوازن بين احترام حقوق الإنسان، وحرية التعبير والرأي، وضمان الحصول على المعلومة، وشفافية ومصداقية الإعلام الحكومي، والتخلي عن خطاب الكراهية والمناورة من جهة، وبين السعي إلى حماية المواطنين من تداعيات العدوى عبر توفير العناية الصحية اللازمة من جهة أخرى، إضافة إلى أن الجائحة كان بإمكانها توفير فرصة للحوار مع مكونات المجتمع المدني وممثلي الحراك والأحزاب السياسية المعارضة من ناحية والسلطة من ناحية أخرى.
لكن السلطة في الجزائر التي تواجه إشكاليات اقتصادية عميقة من بينها انخفاض أسعار النفط، وزيادة عدد العاطلين عن العمل، إضافة إلى أزمة فيروس كورونا المستجد –ما دفعها لتعديل موازنة 2020 باتجاه الزيادة في الضرائب– اختارت الهروب إلى الأمام بإيقاف ومحاكمة العديد من النشطاء والصحفيين والحكم عليهم بأحكام قاسية، والمثير للاستغراب أن ترتيب الجزائر في مجال حرية التعبير والإعلام التي تنشره جمعية «مراسلون بلا حدود» كان أسوأ هذه السنة مما كان عليه في سنوات الديكتاتورية [27] الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان علقت بقولها «بينما يواجه العالم جائحة كوفيد-19 وأزمة صحية غير مسبوقة، قرر الحراك (في الجزائر) إعطاء هدنة منذ 15 مارس 2020 من أجل مقاومة الفيروس، لكن يبدو أن السلطات الجزائرية قررت رفض هذه الهدنة، بما أنها تواصل الإيقافات والمضايقات والمحاكمات، وحتى قرارها بإطلاق سراح 5000 موقوف في 1 أبريل 2020 لم يشمل أي من نشطاء الحراك ومناضلي حقوق الإنسان… بالعكس فالأحكام التي صدرت ضدهم كانت قاسية».
ولم يكن الأمر مختلفًا في بقية بلدان المنطقة، فلم تكتف السلطات المصرية بقمع التظاهرات والاحتجاجات بل سعت إلى التستر على عدد الإصابات ومنعت كل نقد لطريقة أدائها في مواجهة الفيروس، وشنّت حملة ملاحقة للصحفيين طالت حتى الأجانب منهم، حيث سحبت الهيئة العامة للاستعلامات المصرية أوراق اعتماد مراسلة صحيفة الغارديان وأصدرت تحذيرًا لمراسل نيويورك تايمز لأنه شكك في الأرقام الرسمية للإصابات. كما طال القمع والمضايقات العاملين في المجال الصحي، الذين وجدوا أنفسهم حسب شهادات قدموها لمنظمة العفو الدولية بين خيارين «المخاطرة بحياتهم» أمام عدم توفر أدوات الحماية عند مزاولة عملهم أو رفع أصواتهم بالشكوى وبالتالي «مواجهة السجن». مدير البحوث للشرق الأوسط وشمال أفريقيا في منظمة العفو الدولية، فيليب لوثر، علق قائلًا «بدلًا من حماية العاملين في مجال الرعاية الصحية في الخطوط الأمامية من خلال معالجة مخاوفهم المشروعة بشأن سلامتهم ومصدر رزقهم، تتعامل السلطات المصرية مع أزمة وباء كورونا باستخدام أساليبها القمعية المعتادة» [28]
ومع إعلان حالة الطوارئ ومنع التجوال في عديد البلدان، منعت كل التحركات والمظاهرات واستغلت الأنظمة الوضع لمزيد مراقبة الصحافة والنشر، خاصةً فيما يتعلق بالأزمة الصحية ونقد محدودية أداء السلطات الوطنية والمحلية، وتعرض العديد من النشطاء في دول المنطقة للمحاكمة بسبب نشر آرائهم أو نقد الأوضاع الصحية.
التضييق على الإعلام
يمنح القانون الدولي لحقوق الإنسان الحكومات حق اتخاذ إجراءات وتدابير استثنائية زمن المخاطر وذلك من أجل سلامة المواطنين والصحة العامة، ولكنه يشترط أن تكون لها أسس قانونية، وحتمتها الضرورة، وأن تبنى على أدلة علمية بدلًا من التقارير الأمنية، كما تشترط ألا يكون في الإجراءات المتخذة تعسفًا أو تمييزًا وألا تكون دائمة، بل مرتبطة بفترة المخاطر وقابلة للمراجعة بما يتناسب مع حقوق الإنسان.
لكن هذه القيم لا تسري دائمًا في بلداننا، لأن الحكومات السلطوية تستغل الظروف باتخاذ إجراءات صارمة للحد من الحرية، دون مبرر سوى المزيد من التضييق والمراقبة؛ فلقد منعت عديد بلدان المنطقة الصحف الورقية بدعوى منع انتشار العدوى، كما منعت تنقل الصحفيين إلى المراكز الصحية والمستشفيات إلا بتصاريح تمنحها السلطات الأمنية دون معايير واضحة. طبقًا لتقرير مركز حماية وحرية الصحفيين في الأردن، فإن القوانين والأوامر الصادرة عن الحكومة زمن الجائحة أدت إلى الحدّ من تدفق المعلومة، وأن حظر التجّول قد قيّد حركة الإعلاميين والإعلاميات، وأضاف التقرير أن «منح تراخيص المرور والحركة لم يستند إلى معايير واضحة ومعلنة» [29]
الفلسطينيون وأزمة كوفيد-19
الجائحة ضاعفت من آلام الفلسطينيين، سواء كانوا في داخل الحدود الإسرائيلية حيث يعيشون العنصرية حتى في تلقي العلاج، أو في رام الله التي تخضع إلى مراقبة عسكرية، أو في قطاع غزة الذي يعيش حالة حصار دائم، حتى أن تقرير صادر عن الأمم المتحدة أعتبر القطاع –قبل الجائحة– لا يمكن العيش فيه نظرًا لأوضاعه الصعبة والخطيرة، خاصةً بعدما هدمت الهجمات الجوية المتتالية بنيته التحتية، حيث يعاني القطاع من معدلات البطالة بلغت اثنين وخمسون بالمائة، بينما يعيش ثلاثة وخمسون بالمائة من مواطنيه تحت خط الفقر، فضلًا عن النقص الدائم في الأدوية وتلوث المياه والانقطاع المستمر للتيار الكهربائي. [30]
الوضع السياسي زاد الأمر تعقيدًا، مع صعوبة التوصل لحل للقضية ينهي معاناة الشعب الفلسطيني، إن لم يكن مستحيلًا في واقع التوازنات الحالية التي تتسم بتهديدات إسرائيلية بمزيد من الحصار، وضم الضفة الغربية بمباركة أمريكية، ورأي عام دولي غير مهتم بما يجري في المنطقة، وسعي من دول عربية –مثل الإمارات والبحرين والسودان– إلى تطبيع العلاقات مع إسرائيل دون ضمانات بسلام عادل، بل هناك ضغوطات أمريكية على دول خليجية من أجل إنشاء محور إسرائيلي/خليجي في مواجهة إيران وتركيا. [31]
الاستنتاجات
مهما طالت أزمة كوفيد-19 فإن مفعولها سيضعف وسينحسر تأثيرها، كغيرها من الأزمات الصحية السابقة والحروب والكوارث الإنسانية، لكن قبل الحديث عن التغييرات التي قد تحدث مستقبلًا، لابد من الوقوف على نتائجها:
أولًا: ما يمكن ملاحظته أولًا هو الاختلالات الكبيرة على مستوى الصحة العمومية في غالبية دول العالم، وخاصةً في دول شمال أفريقيا والشرق الأوسط، حيث عرفت بلدان مثل العراق ومصر والسعودية نسب إصابات عالية وردود فعل بطيئة، وقد حاولت غالبية بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تعويض النقص في الدعم الصحي بمزيد من الصرامة على مستوى إجراءات الحجر الصحي وإعلان حالات الطوارئ ومنع التجوال، مما يعزز الخشية من تزايد التسلط والحد من الحريات العامة في بلدان عُرفت بنظمها التسلطية. وأعتقد شخصيًا أن شعوب المنطقة التي بدأت مرحلة جديدة من معاركها من أجل الديمقراطية والحرية والعدالة في العديد من البلدان ستواصل تحركها؛ من أجل الوصول إلى حكم عادل، ونظام ديمقراطي، ومؤسسات منتخبة.
ثانيًا: تضاعفت نسب الفقر وارتفعت نسب البطالة، نظرًا لتأثير الوباء على الحركة الاقتصادية من ناحية، وكذلك نظرًا لهشاشة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية من ناحية أخرى، كما تأكد أن غياب الحوكمة الاقتصادية وضعف مؤسسات الدولة أعاقا الاستجابة السريعة لمخلفات الأزمة.
ثالثًا: إن السلوكيات الجديدة التي فرضها انتشار الفيروس من تواصل افتراضي وتحليل سريع وتقنيات حديثة وتعليم عن بعد، تستوجب بالإضافة لمواكبة العصر على مستوى التقنية، حل مشكلة التفاوت الاجتماعي الكبير بين مختلف المناطق والطبقات الاجتماعية، وهو ما ثبت أن الحكومات الحالية في المنطقة لا تزال غير قادرة عليه، بل أن الأزمة الاقتصادية المرتقبة قد تعمّق من التفاوت الاجتماعي والجهوي.
رابعًا: أثبتت الأزمة الصحية الحالية خطورة عدم تنويع الأنشطة الاقتصادية في الدول المصدرة للنفط والغاز، كما تنبئ بمستقبل أكثر قتامة أمام البحث المتجدد في العالم عن بدائل للطاقة، والتعويل أكثر فأكثر على الطاقة المتجددة –التي تستأثر الأن بثلث القدرة الإنتاجية في العالم– [32] وتعمل غالبية الدول الغربية على تنميتها وإعطائها الأولوية في سبيل البحث عن تنمية اقتصادية منخفضة الكربون، وأمام ضغط متواصل من الحركات الاحتجاجية الداعية لعدالة بيئية ومحيط سليم.
خامسًا: عمقت أزمة كوفيد -19 وما صاحبها من حجر صحي وبقاء في المنزل وحالات الطوارئ وحصر التجول وغلق المدارس والمعاهد ودور الحضانة ورياض الأطفال من الهشاشة التي تعاني منها النساء في شمال أفريقيا والشرق الأوسط، خاصةً في المنطقة العربية حيث تعيش النساء مفارقة غريبة، فبينما يمثلن سبعون بالمائة من إطارات القطاع الصحي، فضلًا عن وجودهن في الصفوف الأمامية لمواجهة الفيروس، إضافةً إلى الأعباء المنزلية وتنامي مظاهر العنف الأسري ضدهن، فإنهن يواجهن هشاشة اقتصادية غير مسبوقة، خاصةً اذا ما عرفنا أن عددًا كبيرًا منهن يعملن في القطاع غير المنظم.
سادسًا: أثبت فيروس كورونا والأزمة الصحية التي خلقها مدى هشاشة الوضع الصحي خاصةً في الدول العربية، إن ضعف الاعتمادات المالية المخصصة للصحة العمومية تعتبر أقل بكثير مما تطلبه المنظمة العالمية للصحية، ضعف نتج عنه ندرة في عدد الأطباء والإطار شبه الطبي وفي عدد الأسرة بالمستشفيات وفي مستلزمات الحماية من العدوى ومخابر فحص العيّنات وغرف استقبال المرضى والإنعاش، وهذا النقص الفادح ناتج في رأينا عن أمرين مترابطين، الأول هو عدم الاهتمام بالقطاع الصحي العمومي، كحق لكل مواطن، والثاني هو سياسات التقشف التي اتخذتها دول المنطقة في كل القطاعات العمومية، وذلك بتشجيع من الدوائر المالية العالمية، مثل البنك وصندوق النقد الدوليين.
سابعًا: في السنوات الأخيرة، أصبحت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هي المنطقة الأكثر هشاشة والأكثر عُرضة للنزاعات المسلحة، وأضافت أزمة كوفيد -19 متاعب جديدة للمواطنين في اليمن وسوريا وليبيا الذين أرهقتهم سنوات الحرب الأهلية وشردتّهم وهدمت البنية التحتية لغالبية المرافق العامة، وجاءت الأزمة الصحية لتزيد من متاعبهم، خاصةً مع صعوبة تطبيق إجراءات الحجر الصحي في المخيمات السورية واليمنية، وغياب المتطلبات الدنيا لمواجهة العدوى، حيث يعيش أكثر من سبعة عشر مليون يمني بدون ماء صالح للشرب والغسيل، كما قصفت الميلشيات المتحاربة أكثر من مجمع صحي في طرابلس وغيرها من المدن الليبية، فضلًا عن تراجع جهود الإغاثة والمساعدات الإنسانية بسبب الحظر والقيود المفروضة على السفر وإجراءات التباعد الاجتماعي، مما زاد من معاناة المواطنين في مناطق الصراع. وساهمت القيود المفروضة على السفر وتحرك الدبلوماسيين في التقليص من أمل الوساطات والحلول السلمية التي تنادي بها الهياكل الأممية.
ثامنًا: فرضت أزمة كوفيد-19 تشديد الرقابة الرقمية والأمنية لمراقبة تفشي الوباء، وهذا يثير خشية المهتمين بقضايا حقوق الإنسان في المنطقة، خشية استخدام تلك المراقبة –التي يجب أن تكون طارئة ومقيدة بشروط وبزمن محدد– لاقتناص الفرصة لمزيد مراقبة النشطاء والمعارضين، وذلك دون استيفاء الشروط القانونية، أو مراعاة خصوصيات المواطنين، ودون وجود ضمانات قوية لاحترام حقوق الإنسان.
الخاتمة: لا أمل إلا في الحراك الشعبي
لا يبدو أن الأنظمة في المنطقة قد استفادت من دروس السنوات الماضية، أو أنها مستعدة للتنازل عن سلطاتها وامتيازاتها وثقافة الغنيمة التي تتعامل بها مع الحكم، لكن يبقى الأمل في شعوب المنطقة التي كسرت جدار الخوف واكتسحت الميادين العامة وتحدّت الأجهزة القمعية في الجزائر والعراق ولبنان وغيرها من دول المنطقة، معيدةً شعارات الربيع العربي نفسها، وإن خفت وهج تحركاتها بسبب الحجر الصحي، مما أعطى فرصة للأنظمة لاستعادة أنفاسها والعودة إلى ممارسة الإجراءات التسلطية نفسها، مثلما حدث في الجزائر مثلًا، حيث استغل الرئيس عبد المجيد تبون الأزمة الصحية لإيقاف العديد من قادة الحراك والإعلاميين والسياسيين ووضعهم في السجن بأحكام ثقيلة، وعدّل الدستور لتوسيع صلاحياته، فإن الأزمة الاقتصادية الخانقة وارتداداتها الاجتماعية، بارتفاع نسب البطالة والفقر ستفسد حسابات السلطة وتجبرها في اعتقادي إلى تقديم التنازلات الضرورية، وفي لبنان، عمّق الانفجار الضخم الذي هزّ مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس 2020 من الأزمة متعددة الأوجه التي تعيشها البلاد والتي تسببت في أزمة اقتصادية غير مسبوقة وغضب شعبي عارم، ولعل ما أشارت إليه الدول المانحة للمساعدة أمام أعين السلطة من أن «المساعدات ستذهب إلى الشعب اللبناني مباشرةً» دون وساطة من الحكومة لهو دليل على نفاد مخزون الثقة في السلطة، لا داخليًا فقط، بل وكذلك على المستوى الدولي، مما يشجع التحركات التي تسعى إلى لبنان أخر، لا تحكمه المحاصصة الطائفية التي هي إحدى أهم أسباب الأزمة السياسية، إضافةً إلى التدخلات الإقليمية والدولية.
حتى قبل جائحة كوفيد كانت المنطقة تعيش على وقع أزمة متعددة الأبعاد: حروب أهلية أذكت جذوتها أطراف إقليمية ودولية وأزمات اجتماعية متتالية وجدت تعبيراتها في احتجاجات شبه يومية يقودها شباب لم يعد له ما يخسره أمام تصاعد البطالة والفقر وأنظمة سياسية وعسكرية فاقدة لأي شرعية بحكم تسلطها وفسادها المالي والسياسي. الجائحة لم تزد هذه الأزمة إلا عمقًا، إذ ألحقت ملايين الطبقات الوسطى بالفئات الفقيرة وكشفت هشاشة القطاع العام، خاصةً في الصحة والتعليم وأكدت أن المنطقة في حاجة إلى تغييرات عميقة قد تأخذ زمنًا ليس بالقصير.